١٤ مارس ٢٠١١

لا لترقيع دستور 1971 (1)

سيناريو "ودنك منيـــــــن ياجـــــحا؟!" ولماذا يجب أن يكون انتخــاب «جمعيــة تأسيسـية» لوضع دستور جديد هو الخطوة الأولى في بناء نظامنــا السياسي الجديد؟

ينعقد الآن، في صفوف القوى التي خاضت ثورة 25 يناير المجيدة، ما يشبه الإجماع على ضرورة وضع دستور جديد لبلادنا، سواء كان ذلك الموقف نابعا عن اقتناع بأن الثورة قد أطاحت بشرعية نظام الحكم السابق و بأن ثمة «شرعية ثورية» جديدة قد وُلدت و لابد لها أن تتجسد في دستور ونظام سياسي جديدين يعبران عنها؛ أو كان راجعاً إلى مجرد رفض لترقيع دستورٍ 1971 الذي فصّله "ترزية" القوانين على مقاس النظام الاستبدادي البائد، واستمروا في “تقييفه" بما يخدم مصالح ذلك النظام مرحلة بعد أخرى بحيث أصبحت أحكامه، في مضمونها العام، موضع رفض واستهجان من قوى التجديد والنهضة في مجتمع ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011.

في هذا السياق، تشهد الساحة السياسية الآن جدلاً متزايد الاتساع حول الدستور الذي نريده، وهو جدل يكتنفه فيما أرى قدر غير قليل من الحيرة (لا أريد أن أضيف: و التخبط أحيانا)، فهذا موقف جديد تماما علينا جميعا على اختلاف الأجيال والاتجاهات الفكرية والسياسية التي ننتمي إليها. ومن هنا كانت كثرة الرؤى والاجتهادات المطروحة و كثرة الأسئلة التي لم نتفق بعد على إجابات واضحة عليها. من هذه الأسئلة مثلا:

  • ما هي الخطوات المطلوبة لبناء نظامنا السياسي الجديد؟ وما هو الترتيب المناسب، أو التسلسل المنطقي، لها بحيث تفضي كل خطوة منها إلى الخطوة التالية لها بسلاسة ودون أهدار للجهد والوقت؟

  • ما هو ترتيب عملية وضع الدستور في تسلسل هذه الخطوات؟

  • من الذي يضع هذا الدستور؟ هل تضعه لجنة معينة ومن الذي يعينها؟، أم تضعه جمعية تأسيسية منتخبه (أو مجلس تأسيسي منتخب، فلا فارق بين التسميتين فكل منهما ترجمة لـAssemblée constituante) وهل تُنتخب هذه الجمعية انتخابا مباشرا، أي بالاقتراع العام المباشر، أم تأتي بالانتخاب غير المباشر أي ينتخبها أعضاء البرلمان (مجلس الشعب، أو مجلس الشعب والشورى إذا بقي مجلس الشورى في نظامنا السياسي الجديد)؟

  • هل نأخذ في هذا الدستور بـ «النظام البرلماني»، وهو نظام يكون فيه البرلمان مركز الثقل في النظام السياسي فتنبثق منه السلطة التنفيذية، أي الحكومة، وتكون الحكومة مسئولة أمامه بحيث يستطيع البرلمان أن يقصيها عن الحكم بحجب الثقة عنها ؛ أم نأخذ بـ «النظام الرئاسي» الذي تنفصل فيه السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية فلا يكون رأس السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية، مسئولا أمام البرلمان، ولا يحق له حل البرلمان كما لا يحق للبرلمان عزله؟

  • هل يكون برلماننا الجديد من مجلسين ( مجلس شعب ومجلس شورى إذا أخذنا بالتسميات الحالية) أم من مجلس واحد؟

  • هل يكون انتخاب رئيس الجمهورية، إذا ما أخذنا بالنظام « البرلماني»، بالاقتراع العام المباشر أم يقوم البرلمان بانتخابه كما يحدث في كثير من الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني؟
من البديهي أن يكون حسم هذه المسائل مدخلا ضروريا للشروع في أية عملية لبناء نظام سياسي جديد، وهو ما يعني بالضرورة أن تكون نقطة البداية هي وضع الدستور الجديد، وأن يكون كل ما يسبق هذه البداية، في مرحلتنا الراهنة، هو مجرد وضع مؤقت. فمن العبث أن نبدأ بإجراء انتخابات رئاسية ونحن لا نعرف ما هي سلطات الرئيس الذي سننتخبه، ومن المجافي للعقل أن ننتخب مجلسا نيابيا جديدا لا نعرف وظائفه و حقوقه ومكانه في النظام السياسي الذي نريد بناءه.

هذا، في تقديري، ما يدور في أذهان غالبية المطالبين بوضع دستور جديد.

هنا قد يقول قائل: ولم لا نعتبر دستور 1971، أي دستور النظام البائد الذي عطل المجلس الأعلى للقوات المسلحة العمل به، دستورا مؤقتا نُجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أساسه، بعد الاستفتاء على التعديلات التي أدخلت عليه، ثم نقوم بعد ذلك بانتخاب جمعية تأسيسية، أو تشكيل لجنة، لوضع دستور جديد؟

وهذا هو، في واقع الأمر، السيناريو الذي يوحي به قرار إجراء استفتاء عام في 19 مارس الحالي على التعديلات الدستورية التي توصلت إليها اللجنة المعينة من قِبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو سيناريو تتمثل خطواته فيما يلي:

  • الخطوة الأولى: إجراء الاستفتاء على التعديلات

  • الخطوة الثانية: في حالة الموافقة على التعديلات يعود العمل بدستور 1971 بعد انتهاء الفترة الانتقالية الحالية (أي الفترة التي يمارس فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطات رئيس الجمهورية)

  • الخطوتان الثالثة والرابعة: إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ظل أحكام دستور 1971 (المعدل) وإن كان الرأي لم يستقر بعد على البدء بالرئاسية أم بالبرلمانية

  • الخطوة الخامسة: يمكن التفكير عندئذ في وضع دستور جديد، وقيام مجلس الشعب بتشكيل لجنة لصياغة هذا الدستور في خلال ستة أشهر.
الغريب أن هذا السيناريو، رغم كل ما ينطوي عليه من إهدار للوقت والجهد، يجري الترويج له بدعوى "كسب الوقت"، بذريعة أن وضع دستور جديد عملية تستغرق وقتا تظل البلاد أثنائه بلا مؤسسات تشريعية وتنفيذية منتخبة. لكن كثيرا من المروجين لهذا الرأي، وأقصد بالتحديد من يقومون بالدعوة له بحسن نية وعن رغبة صادقة في خدمة الوطن، لا يدركون في الغالب المخاطر الرهيبة التي ينطوي عليها هذا السيناريو.

أول هذه المخاطر أن الرئيس المنتخب ستكون له في هذه الحالة نفس السلطات التي كان يتمتع بها الرئيس في النظام البائد، فالتعديلات التي أقرتها لجنة تعديل الدستور لم تمس من قريب أو من بعيد هذه السلطات الواسعة التي لا تقف عند جعل رئيس الجمهورية غير مسئول أمام البرلمان (كما هو الحال في نظام الجمهورية الرئاسية) بل تعطيه أيضا، بمقتضى المادة 136،الحق في حل البرلمان وهو حق لا تعطيه الأنظمة الرئاسية لرئيس السلطة التنفيذية حيث يقوم هذا النظام، كما رأينا، على استقلال كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية عن الأخرى. وهذا فضلا عن المادة 74 التي تجيز لرئيس الجمهورية عدم الالتزام بأحكام الدستور إذ تبيح له أن يتخذ ما يشاء من إجراءات دون الرجوع إلى مجلسي الشعب والشورى ”إذا قام خطر حال وجسيم يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري“، وواضح من نص هذه المادة أن تقرير وجود مثل هذا الخطر ”الحال والجسيم“ متروك لرئيس الجمهورية وحده، حيث لا تذكر المادة جهة أخرى تبت في هذا الأمر أو حتى تشارك الرئيس في البت فيه، فكل ما تطلبه من رئيس الجمهورية هو أن يقوم عندئذ بـ ”أخذ رأي رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى “ لكن ليس في المادة ما يشير إلى أن رأي هؤلاء ملزم له، ولا يزيد المطلوب من الرئيس في هذه الحالة عن ”إجراء استفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها“ وهي مهلة كافية تعطي للرئيس الفرصة لفرض ما يريده ووضع الشعب أمام الأمر الواقع.. ودون دخول في مزيد من تفاصيل السلطات غير المحدودة التي يمنحها دستور 1971 لرئيس الجمهورية.. والتي جعلت من رئيس الجمهورية محورا لكل النظام السياسي المصري، وأجهزت على أية سلطة حقيقية للبرلمان في مواجهة الرئيس وسياساته، وقضت بالتالي على إمكانية قيام حياة سياسية تعددية وأحزاب تملك مقومات الحياة والعمل بمعزل عن السلطة التنفيذية، علينا أن نلاحظ أن هذا الدستور يجعل أيضا من رئيس الجمهورية قائدا أعلى للقوات المسلحة ورئيسا للمجلس الأعلى للقضاء.

خلاصة الكلام أن سلطات الرئيس بمقتضى ذلك الدستور سلطات ديكتاتورية.. تعطي لرئيس الجمهورية كل الحصانات الممكنة في مواجهة البرلمان، الذي يفترض فيه أنه ممثل للشعب، بينما لا تعطي البرلمان أية حصانة في مواجهة الرئيس.

ما أدرانا، إذن، أن الرئيس الذي سننتخبه، والذي سيتمتع بداهة بالسلطات الفضفاضة التي يمنحها له دستور1971، لن يستغل هذه السلطات لفرض مسار معين لعملية بناء النظام السياسي الجديد، وعندئذ ستكون تصرفاته لا غبار عليها من الوجهة الدستورية، وربما وجد أيضا من "المطبلاتية" وحملة المباخر والدفوف من يدافع عن تصرفاته و يحاول أن يزينها في عيون الشعب؟

هل سنقول للرئيس المنتخب عندئذ: "من فضلك يا فخامة الرئيس لا تمارس السلطات التي يكفلها لك الدستور الذي انتخبناك على أساسه"؟!

حذار أن يتوهم أحد أن هذا الخطر بعيد الاحتمال. فقوى الثورة المضادة، بكل ما لديها من فلول لا تزال قابعة في كثير من مؤسسات السلطة و أجهزة الإعلام، وبكل ما تملكه من أموال طائلة وما يمكن أن تحظى به من تأييد من القوى الخارجية المناوئة لقيام نظام وطني في مصر، وبكل ما ينخرط داخل صفوفها من "رجال أعمال" استمرءوا الفساد ونهب المال العام وتغلغلوا في قمة السلطة تحت جناح الحكم الديكتاتوري، وبكل الجيش الجرار من البلطجية والمرتزقة الذي يستطيع هؤلاء شراءه؛ هذه القوى تتأهب الآن لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتصفية كل ما حققته ثورة 25 يناير، بينما لم تستطع قوى الثورة الفتية – وبالذات التي لا تنتمي للأطر السياسية التقليدية - أن تبني لنفسها حتى الآن هياكل تنظيمية عميقة الجذور بين الجماهير وأن تتوصل إلى برامج تحدد رؤى واضحة للمستقبل وتحتشد وراءها قوى الشعب. ولا شك أن نجاح مرشح لقوى الثورة المضادة في الانتخابات الرئاسية المقبلة يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات العودة للنظام الديكتاتوري.

هذا هو الخطر الرهيب الذي من الممكن جدا أن نتعرض له فيما لو أيدت غالبية الناخبين، في استفتاء 19 مارس، التعديلات الدستورية و قرر المجلس العسكري الحاكم، بناء على ذلك، إعادة العمل بدستور 1971 بعد إدخال هذه التعديلات عليه.

على أن المشكلات التي سنواجهها عندئذ لن تقف، في تقديري، عند المخاطر التي تنطوي عليها هذه السلطات الديكتاتورية التي يمنحها دستور 1971 لرئيس الجمهورية.

يكفي لكي ندرك جانبا من المأزق الذي سنواجهه عندئذ أن نحاول تصور ما يمكن أن يحدث لو أننا أقدمنا، بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفقا لأحكام دستور 1971، ثم قمنا بعد بضعة شهور أخرى بتشكيل أو انتخاب لجنة أو جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وأنجزت هذه اللجنة، أو هذه الجمعية، مهمتها، وجاء هذا الدستور الجديد ليأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية وهو أمر غير مستبعد حيث يميل إلى ذلك الآن كثير من أصحاب الرأي وفقهاء القانون. ماذا سنفعل عندئذ؟ هل سنقوم، بعد إقرار هذا الدستور الجديد، بإعفاء رئيس الجمهورية الذي انتخبناه على أساس النظام الرئاسي المتطرف الذي أخذ به دستور 1971، قائلين له "متشكرين يا فخامة الرئيس على الشوية دول!"، ونجري انتخابات رئاسية جديدة؟! سؤال آخر:هل سنقوم عندئذ بحل مجلسي الشعب والشورى المنتخبين على أساس دستور 1971 ونجري انتخابات برلمانية جديدة حيث تختلف وظيفة البرلمان في النظام الرئاسي اختلافا جوهريا عنها في النظام البرلماني؟! أو دعنا نفترض أن الدستور الجديد قرر أن يكون البرلمان من مجلس واحد وليس من مجلسين، وهو اتجاه يلقى قبولا واسعا من الرأي العام الآن، هل سنقوم عندئذ بتسريح أعضاء مجلس الشورى ؟! وماذا يمكن أن يحدث لو قرر الدستور الجديد، في حالة الأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية، ألاّ يكون انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر بل يقوم البرلمان بانتخابه كما يحدث في كثير من الدول التي تأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية؟

هذا جانب من المشاكل التي سنواجهها فيما لو أخذنا بالسيناريو الذي يمكن أن نسميه "سيناريو ودنك منين يا جحا" فبدأنا بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية قبل وضع دستور جديد. سنجد أنفسنا دون أية مبالغة أمام كوميديا سوداء، بكل معنى الكلمة: إهدار للوقت والجهد وحيرة و"لخبطة" بلا حدود.. بكل ما قد يثيره هذا من إحباط وخيبة أمل لدى شبابنا المتطلع الآن، بعد كل التضحيات التي قدمها ثمنا للإطاحة بالنظام الديكتاتوري البائد، إلى حياة ديموقراطية جديدة تكفل له وللمواطنين جميعا مشاركة حقيقية في تقرير مصير الوطن وفي صنع مستقبله.

البديهي إذن أن تأتي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد الانتهاء من وضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه.

هذا ما يجب أن يكون واضحا في أذهاننا جميعا قبل أن نصوّت بـ"نعم" أو"لا" على التعديلات الدستورية المطروحة. يجب أن نرفض هذه التعديلات، لا لأنها حسنة أو رديئة في ذاتها، ولكن لأن الموافقة عليها تعني الموافقة على ترقيع دستور النظام الذي أسقطه الشعب و العودة إلى العمل بذلك الدستور الديكتاتوري بكل ما تنطوي عليه هذه العودة من أخطار على الديموقراطية وعلى ما حققته ثورتنا بفضل ما قدمته الملايين الثائرة من شهداء وتضحيات فادحة.

لا لخيانة دم شهدائنا.. لا لإهدار تضحيات شعبنا في ثورة 25 يناير
شعارنا الواضح يجب أن يكون منذ الآن :
لا لترقيع دستور 1971..الشعب يرفض دستور النظام البائد ويطالب بدستور جديد.


عبد الحق

للحديث بقية..