١٤ مارس ٢٠١١

لا لترقيع دستور 1971 (1)

سيناريو "ودنك منيـــــــن ياجـــــحا؟!" ولماذا يجب أن يكون انتخــاب «جمعيــة تأسيسـية» لوضع دستور جديد هو الخطوة الأولى في بناء نظامنــا السياسي الجديد؟

ينعقد الآن، في صفوف القوى التي خاضت ثورة 25 يناير المجيدة، ما يشبه الإجماع على ضرورة وضع دستور جديد لبلادنا، سواء كان ذلك الموقف نابعا عن اقتناع بأن الثورة قد أطاحت بشرعية نظام الحكم السابق و بأن ثمة «شرعية ثورية» جديدة قد وُلدت و لابد لها أن تتجسد في دستور ونظام سياسي جديدين يعبران عنها؛ أو كان راجعاً إلى مجرد رفض لترقيع دستورٍ 1971 الذي فصّله "ترزية" القوانين على مقاس النظام الاستبدادي البائد، واستمروا في “تقييفه" بما يخدم مصالح ذلك النظام مرحلة بعد أخرى بحيث أصبحت أحكامه، في مضمونها العام، موضع رفض واستهجان من قوى التجديد والنهضة في مجتمع ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011.

في هذا السياق، تشهد الساحة السياسية الآن جدلاً متزايد الاتساع حول الدستور الذي نريده، وهو جدل يكتنفه فيما أرى قدر غير قليل من الحيرة (لا أريد أن أضيف: و التخبط أحيانا)، فهذا موقف جديد تماما علينا جميعا على اختلاف الأجيال والاتجاهات الفكرية والسياسية التي ننتمي إليها. ومن هنا كانت كثرة الرؤى والاجتهادات المطروحة و كثرة الأسئلة التي لم نتفق بعد على إجابات واضحة عليها. من هذه الأسئلة مثلا:

  • ما هي الخطوات المطلوبة لبناء نظامنا السياسي الجديد؟ وما هو الترتيب المناسب، أو التسلسل المنطقي، لها بحيث تفضي كل خطوة منها إلى الخطوة التالية لها بسلاسة ودون أهدار للجهد والوقت؟

  • ما هو ترتيب عملية وضع الدستور في تسلسل هذه الخطوات؟

  • من الذي يضع هذا الدستور؟ هل تضعه لجنة معينة ومن الذي يعينها؟، أم تضعه جمعية تأسيسية منتخبه (أو مجلس تأسيسي منتخب، فلا فارق بين التسميتين فكل منهما ترجمة لـAssemblée constituante) وهل تُنتخب هذه الجمعية انتخابا مباشرا، أي بالاقتراع العام المباشر، أم تأتي بالانتخاب غير المباشر أي ينتخبها أعضاء البرلمان (مجلس الشعب، أو مجلس الشعب والشورى إذا بقي مجلس الشورى في نظامنا السياسي الجديد)؟

  • هل نأخذ في هذا الدستور بـ «النظام البرلماني»، وهو نظام يكون فيه البرلمان مركز الثقل في النظام السياسي فتنبثق منه السلطة التنفيذية، أي الحكومة، وتكون الحكومة مسئولة أمامه بحيث يستطيع البرلمان أن يقصيها عن الحكم بحجب الثقة عنها ؛ أم نأخذ بـ «النظام الرئاسي» الذي تنفصل فيه السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية فلا يكون رأس السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية، مسئولا أمام البرلمان، ولا يحق له حل البرلمان كما لا يحق للبرلمان عزله؟

  • هل يكون برلماننا الجديد من مجلسين ( مجلس شعب ومجلس شورى إذا أخذنا بالتسميات الحالية) أم من مجلس واحد؟

  • هل يكون انتخاب رئيس الجمهورية، إذا ما أخذنا بالنظام « البرلماني»، بالاقتراع العام المباشر أم يقوم البرلمان بانتخابه كما يحدث في كثير من الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني؟
من البديهي أن يكون حسم هذه المسائل مدخلا ضروريا للشروع في أية عملية لبناء نظام سياسي جديد، وهو ما يعني بالضرورة أن تكون نقطة البداية هي وضع الدستور الجديد، وأن يكون كل ما يسبق هذه البداية، في مرحلتنا الراهنة، هو مجرد وضع مؤقت. فمن العبث أن نبدأ بإجراء انتخابات رئاسية ونحن لا نعرف ما هي سلطات الرئيس الذي سننتخبه، ومن المجافي للعقل أن ننتخب مجلسا نيابيا جديدا لا نعرف وظائفه و حقوقه ومكانه في النظام السياسي الذي نريد بناءه.

هذا، في تقديري، ما يدور في أذهان غالبية المطالبين بوضع دستور جديد.

هنا قد يقول قائل: ولم لا نعتبر دستور 1971، أي دستور النظام البائد الذي عطل المجلس الأعلى للقوات المسلحة العمل به، دستورا مؤقتا نُجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أساسه، بعد الاستفتاء على التعديلات التي أدخلت عليه، ثم نقوم بعد ذلك بانتخاب جمعية تأسيسية، أو تشكيل لجنة، لوضع دستور جديد؟

وهذا هو، في واقع الأمر، السيناريو الذي يوحي به قرار إجراء استفتاء عام في 19 مارس الحالي على التعديلات الدستورية التي توصلت إليها اللجنة المعينة من قِبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو سيناريو تتمثل خطواته فيما يلي:

  • الخطوة الأولى: إجراء الاستفتاء على التعديلات

  • الخطوة الثانية: في حالة الموافقة على التعديلات يعود العمل بدستور 1971 بعد انتهاء الفترة الانتقالية الحالية (أي الفترة التي يمارس فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطات رئيس الجمهورية)

  • الخطوتان الثالثة والرابعة: إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ظل أحكام دستور 1971 (المعدل) وإن كان الرأي لم يستقر بعد على البدء بالرئاسية أم بالبرلمانية

  • الخطوة الخامسة: يمكن التفكير عندئذ في وضع دستور جديد، وقيام مجلس الشعب بتشكيل لجنة لصياغة هذا الدستور في خلال ستة أشهر.
الغريب أن هذا السيناريو، رغم كل ما ينطوي عليه من إهدار للوقت والجهد، يجري الترويج له بدعوى "كسب الوقت"، بذريعة أن وضع دستور جديد عملية تستغرق وقتا تظل البلاد أثنائه بلا مؤسسات تشريعية وتنفيذية منتخبة. لكن كثيرا من المروجين لهذا الرأي، وأقصد بالتحديد من يقومون بالدعوة له بحسن نية وعن رغبة صادقة في خدمة الوطن، لا يدركون في الغالب المخاطر الرهيبة التي ينطوي عليها هذا السيناريو.

أول هذه المخاطر أن الرئيس المنتخب ستكون له في هذه الحالة نفس السلطات التي كان يتمتع بها الرئيس في النظام البائد، فالتعديلات التي أقرتها لجنة تعديل الدستور لم تمس من قريب أو من بعيد هذه السلطات الواسعة التي لا تقف عند جعل رئيس الجمهورية غير مسئول أمام البرلمان (كما هو الحال في نظام الجمهورية الرئاسية) بل تعطيه أيضا، بمقتضى المادة 136،الحق في حل البرلمان وهو حق لا تعطيه الأنظمة الرئاسية لرئيس السلطة التنفيذية حيث يقوم هذا النظام، كما رأينا، على استقلال كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية عن الأخرى. وهذا فضلا عن المادة 74 التي تجيز لرئيس الجمهورية عدم الالتزام بأحكام الدستور إذ تبيح له أن يتخذ ما يشاء من إجراءات دون الرجوع إلى مجلسي الشعب والشورى ”إذا قام خطر حال وجسيم يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري“، وواضح من نص هذه المادة أن تقرير وجود مثل هذا الخطر ”الحال والجسيم“ متروك لرئيس الجمهورية وحده، حيث لا تذكر المادة جهة أخرى تبت في هذا الأمر أو حتى تشارك الرئيس في البت فيه، فكل ما تطلبه من رئيس الجمهورية هو أن يقوم عندئذ بـ ”أخذ رأي رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى “ لكن ليس في المادة ما يشير إلى أن رأي هؤلاء ملزم له، ولا يزيد المطلوب من الرئيس في هذه الحالة عن ”إجراء استفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها“ وهي مهلة كافية تعطي للرئيس الفرصة لفرض ما يريده ووضع الشعب أمام الأمر الواقع.. ودون دخول في مزيد من تفاصيل السلطات غير المحدودة التي يمنحها دستور 1971 لرئيس الجمهورية.. والتي جعلت من رئيس الجمهورية محورا لكل النظام السياسي المصري، وأجهزت على أية سلطة حقيقية للبرلمان في مواجهة الرئيس وسياساته، وقضت بالتالي على إمكانية قيام حياة سياسية تعددية وأحزاب تملك مقومات الحياة والعمل بمعزل عن السلطة التنفيذية، علينا أن نلاحظ أن هذا الدستور يجعل أيضا من رئيس الجمهورية قائدا أعلى للقوات المسلحة ورئيسا للمجلس الأعلى للقضاء.

خلاصة الكلام أن سلطات الرئيس بمقتضى ذلك الدستور سلطات ديكتاتورية.. تعطي لرئيس الجمهورية كل الحصانات الممكنة في مواجهة البرلمان، الذي يفترض فيه أنه ممثل للشعب، بينما لا تعطي البرلمان أية حصانة في مواجهة الرئيس.

ما أدرانا، إذن، أن الرئيس الذي سننتخبه، والذي سيتمتع بداهة بالسلطات الفضفاضة التي يمنحها له دستور1971، لن يستغل هذه السلطات لفرض مسار معين لعملية بناء النظام السياسي الجديد، وعندئذ ستكون تصرفاته لا غبار عليها من الوجهة الدستورية، وربما وجد أيضا من "المطبلاتية" وحملة المباخر والدفوف من يدافع عن تصرفاته و يحاول أن يزينها في عيون الشعب؟

هل سنقول للرئيس المنتخب عندئذ: "من فضلك يا فخامة الرئيس لا تمارس السلطات التي يكفلها لك الدستور الذي انتخبناك على أساسه"؟!

حذار أن يتوهم أحد أن هذا الخطر بعيد الاحتمال. فقوى الثورة المضادة، بكل ما لديها من فلول لا تزال قابعة في كثير من مؤسسات السلطة و أجهزة الإعلام، وبكل ما تملكه من أموال طائلة وما يمكن أن تحظى به من تأييد من القوى الخارجية المناوئة لقيام نظام وطني في مصر، وبكل ما ينخرط داخل صفوفها من "رجال أعمال" استمرءوا الفساد ونهب المال العام وتغلغلوا في قمة السلطة تحت جناح الحكم الديكتاتوري، وبكل الجيش الجرار من البلطجية والمرتزقة الذي يستطيع هؤلاء شراءه؛ هذه القوى تتأهب الآن لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتصفية كل ما حققته ثورة 25 يناير، بينما لم تستطع قوى الثورة الفتية – وبالذات التي لا تنتمي للأطر السياسية التقليدية - أن تبني لنفسها حتى الآن هياكل تنظيمية عميقة الجذور بين الجماهير وأن تتوصل إلى برامج تحدد رؤى واضحة للمستقبل وتحتشد وراءها قوى الشعب. ولا شك أن نجاح مرشح لقوى الثورة المضادة في الانتخابات الرئاسية المقبلة يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات العودة للنظام الديكتاتوري.

هذا هو الخطر الرهيب الذي من الممكن جدا أن نتعرض له فيما لو أيدت غالبية الناخبين، في استفتاء 19 مارس، التعديلات الدستورية و قرر المجلس العسكري الحاكم، بناء على ذلك، إعادة العمل بدستور 1971 بعد إدخال هذه التعديلات عليه.

على أن المشكلات التي سنواجهها عندئذ لن تقف، في تقديري، عند المخاطر التي تنطوي عليها هذه السلطات الديكتاتورية التي يمنحها دستور 1971 لرئيس الجمهورية.

يكفي لكي ندرك جانبا من المأزق الذي سنواجهه عندئذ أن نحاول تصور ما يمكن أن يحدث لو أننا أقدمنا، بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفقا لأحكام دستور 1971، ثم قمنا بعد بضعة شهور أخرى بتشكيل أو انتخاب لجنة أو جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وأنجزت هذه اللجنة، أو هذه الجمعية، مهمتها، وجاء هذا الدستور الجديد ليأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية وهو أمر غير مستبعد حيث يميل إلى ذلك الآن كثير من أصحاب الرأي وفقهاء القانون. ماذا سنفعل عندئذ؟ هل سنقوم، بعد إقرار هذا الدستور الجديد، بإعفاء رئيس الجمهورية الذي انتخبناه على أساس النظام الرئاسي المتطرف الذي أخذ به دستور 1971، قائلين له "متشكرين يا فخامة الرئيس على الشوية دول!"، ونجري انتخابات رئاسية جديدة؟! سؤال آخر:هل سنقوم عندئذ بحل مجلسي الشعب والشورى المنتخبين على أساس دستور 1971 ونجري انتخابات برلمانية جديدة حيث تختلف وظيفة البرلمان في النظام الرئاسي اختلافا جوهريا عنها في النظام البرلماني؟! أو دعنا نفترض أن الدستور الجديد قرر أن يكون البرلمان من مجلس واحد وليس من مجلسين، وهو اتجاه يلقى قبولا واسعا من الرأي العام الآن، هل سنقوم عندئذ بتسريح أعضاء مجلس الشورى ؟! وماذا يمكن أن يحدث لو قرر الدستور الجديد، في حالة الأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية، ألاّ يكون انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر بل يقوم البرلمان بانتخابه كما يحدث في كثير من الدول التي تأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية؟

هذا جانب من المشاكل التي سنواجهها فيما لو أخذنا بالسيناريو الذي يمكن أن نسميه "سيناريو ودنك منين يا جحا" فبدأنا بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية قبل وضع دستور جديد. سنجد أنفسنا دون أية مبالغة أمام كوميديا سوداء، بكل معنى الكلمة: إهدار للوقت والجهد وحيرة و"لخبطة" بلا حدود.. بكل ما قد يثيره هذا من إحباط وخيبة أمل لدى شبابنا المتطلع الآن، بعد كل التضحيات التي قدمها ثمنا للإطاحة بالنظام الديكتاتوري البائد، إلى حياة ديموقراطية جديدة تكفل له وللمواطنين جميعا مشاركة حقيقية في تقرير مصير الوطن وفي صنع مستقبله.

البديهي إذن أن تأتي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد الانتهاء من وضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه.

هذا ما يجب أن يكون واضحا في أذهاننا جميعا قبل أن نصوّت بـ"نعم" أو"لا" على التعديلات الدستورية المطروحة. يجب أن نرفض هذه التعديلات، لا لأنها حسنة أو رديئة في ذاتها، ولكن لأن الموافقة عليها تعني الموافقة على ترقيع دستور النظام الذي أسقطه الشعب و العودة إلى العمل بذلك الدستور الديكتاتوري بكل ما تنطوي عليه هذه العودة من أخطار على الديموقراطية وعلى ما حققته ثورتنا بفضل ما قدمته الملايين الثائرة من شهداء وتضحيات فادحة.

لا لخيانة دم شهدائنا.. لا لإهدار تضحيات شعبنا في ثورة 25 يناير
شعارنا الواضح يجب أن يكون منذ الآن :
لا لترقيع دستور 1971..الشعب يرفض دستور النظام البائد ويطالب بدستور جديد.


عبد الحق

للحديث بقية..

١٧ يونيو ٢٠٠٧

المواطنون العرب في إسرائيل ونظام الوصاية

«د.عزمي بشارة»
يصعب تفسير شدة حملة التحريض الأخيرة على المواطنين العرب في الداخل، وعلى تيارهم الوطني بشكل خاص، بفتح التحقيق ضد نائب عربي في البرلمان بتهم أمنية. ولا شك أن المؤسسة الصهيونية بيسارها ويمينها تصفي حسابا طويلا مع أفكار طرحت ووصلت مؤخراً حد التفتح بألف لون وزهرة، وشكلت اقتراح مشروع فعلي للجماهير العربية. ولا يوجد مشروع يمكن تسميته مشروع شامل للجماهير العربية تتميز به سوى: أولاً، أن الدولة لكي تكون ديمقراطية ولكي تتحقق فيها المساواة يجب أن تكون لجميع مواطنيها، وهذا يعني أن المساواة والديمقراطية إذا طرحت بشكل مثابر وصحيح لا يصح أن تكون اندماجية في الصهيونية أو على هوامشها، بل مناقضة منافية لها. وثانياً، أنه في هذه البلاد تعيش قوميتان واحدة منهما هي قومية الأصلانيين، وأن العرب الذين بقوا هم جزء من القومية الأصلانية. هذا إضافة لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. وهم يعلمون أن هذا المشروع لم يعد حزبيا بل أصبح إرث كل شاب وفتاة عربية يرفضان التخلي عن عروبتهم وعن المساواة الكاملة، ويرفضون نظام الوصاية الاستعماري الطابع.

المزيد في الشارع السياسي

٠٧ مارس ٢٠٠٧

ســامية

 For us, there is only the trying. The rest is not our business. 
T.S. Eliot, Four Quartets, East Coker.


محاولات سامية
في مدونة «سامية» تنوعٌ قلما أجد نظيراً له في المدونات الأخرى: نصوص أدبية، ومقالات لبعض كبار الكتاب، تنشرها في الغالب بإذن منهم، وتدوينات سياسية وأخرى عن مبدعين في الموسيقى («حازم شاهين» وفرقة «اسكندريللا») والفنون التشكيلية («حامد العويضي» و«سمير فؤاد»)، والمسرح («خلود ناصر» و«أكرم خان»)، وأخبار عن نشاطات المبدعين من الأهل والأصدقاء، وتَواصُل مع جمهور الحفلات الموسيقية والأمسيات الشعرية التي تشارك فيها.

لا غرابة، مع كل هذا التنوع، أن تجتذب «محاولات سامية» جمهوراً واسعاً من المدونين وقراء المدونات، وتنال شهرةً يُسهم في صنعها أيضا التجاوب الذي تلقاه من جمهورٍ متزايد يشاهدها ويُعجب بما تقدمه في الأمسيات الشعرية والموسيقية، إضافة بالطبع إلى اسم «جاهين».

كانت مدونة «سامية» هي الباب الذي دخلتُ منه إلى فضاء التدوين، معلقاً في البداية على تدوينة لها، ثم مشاركاً، مرة أو مرتين، في سجالٍ صاخب دار على صفحات المدونة. وكانت هذه المشاركة هي التي أقنعتني بأن بعضاً من أصحاب الأصوات الأكثر جلبةً وضجيجاً في عالم المدونات يعيش حالة انفصام عن الواقع. واستقر في يقيني عندئذ أن تلك الأصوات لا تعدو أن تكون عَرَضاً من أعراض الأزمة التي نعيشها، عَرَضَاً للحيرة والإحباط، وليست بشيراً بالأمل في قهر العجز و الخروج من النفق المظلم. ومن هنا كان قراري بالمشاركة في التدوين.

مدونة «سامية»، في اعتقادي، هي محاولة لقهر العجز، للتمرد على الإحباط والحيرة: همزةُ وصلٍ تربطنا بكل ما هو مضيء في تاريخنا. ضوءٌ قويٌ مُسلط على المواهب الواعدة. يدٌ تشير بقوة إلى القوى الحية التي تنهض وتقاوم رافضة الاستسلام، تشيرُ إلى الجديد الذي يتخلّق في رحم الواقع و تعجز عن رؤيته العيون الكليلة التي أدمنت اجترار الهزيمة وجلد الذات.

لا أخفي عليكم أنني أفرح مع كل نص أدبي جديد لـ«سامية» إذ أتابع لغتها وهي تكتسب على مر الأيام كثافةً شعرية، ومذاقاً خاصاً تنفرد به، وقواما متماسكا مُحكم البناء، وهي التي بدأت الكتابة بالعربية، كما أعلم، منذ زمن قصير جدا. هذا، في نظري، جانب مهم من جوانب ’قهر العجز‘: أن يسعى كلٌ منّا إلى الارتقاء بقدراته، إلى تحصيل مزيد من المعرفة والتجويد في عمله. الاستمرار في الإبداع، في ظروفنا، دليلُ مقاومةٍ ورفض للتدهور. كان هذا ما دفعني للكتابة عن «هبة» و«إيمان ثابت» و«زنجي» و«السهروردي» و«رحاب بسام»، وهو ما يدفعني اليوم للكتابة عن «سامية».

سأكتفي في هذا المقال بالوقوف أمام نص أدبي واحد لـ«سامية» هو قصتها القصيرة ”قزاز لكن زي المراية“، ثم أتحدث بإيجاز عن اللغة في نصوصها الأدبية، و اختم في النهاية بانطباعاتي عن شخصية «سامية»، الوحيدة، التي أعرفها عن قرب، من بين كل المدونين الذين أنوي الكتابة عنهم ضمن هذه السلسلة من المقالات.
*****
تتحرك محاولات «سامية» في الكتابة الأدبية بين نوعين من النصوص: نصوص تعتمد على الإيهام بمحاكاة ’الواقع‘ فتسرد أحداثا حقيقية أو متخيلة على نحو ما نعيشها في حياتنا اليومية، ونصوص سردية أخرى يمكن تسميتها ب’المجازية‘ (allegorical) تبتعد عن الإيهام بالمحاكاة وتدور أحداثها في إطار مفارق ’للواقع‘ المألوف. ينتمي إلى النوع الأول نصوص مثل ”بنات زينب“ و”العودة“ و”وداد“ و”طنط لبيبة الحبيبة“ و”عنوان مش فاكراه دلوقتي“، بينما ينتمي للنوع الثاني ”الكاتب والمكتوب“ و”صليب كل يوم“ و”إلى أسفل“ و”قزاز لكن زي المراية“.

هل اعتراكم مثلي، حين قرأتم ”قزاز لكن زي المراية“، شعورٌ ممضٌ بالأسى وهي تصف لنا العجز الذي ألِفه البعض منا واستنام إليه؟

يستهلُ السردَ في هذه القصة صوتٌ يستخدم ضمير المتكلمين:
.. في كل صباح ننهض من فراشنا، نخلع عن أجسادنا الكوابيس ونكسوها بأقطان وحرائر ناعمة ونبدأ معا- كل على حدة- رحلة فقدان الذات اليومية. لا صعوبة فيها.. فكل الطرق ممهدة وجميعها تؤدي إلى روما.. إلى النادي.. أو المقهى الأمريكي.. أو الفيلم الأمريكي.. أو الحلم الأمريكي.
يقول لنا الصوت أن ثمة حاجزاً زجاجياً هائلاً يفصل هذا الجمع، الذي ينتمي إليه هذا الصوت و يتحدث بلسانه، عن إمرأة تبدو لهم، فجأة، من بعيد ملوّحة بأيديها في الهواء كالغرقى:
كالسيوف قطعت يداها حديثنا البهيج.
كنا نمرح ونلهو ونتبادل نكات حفظناها وتناسيناها حفاظا على أمزجتنا من كدر الحياة.
كنا نسير متشابكي الأيدي متناسقي الألوان، لا تبدو علينا غربة ولا أحزان..
لكن هذا الصوت الذي يتحدث بضمير المتكلمين لا يلبث أن يختفي. يأتينا بدلاً منه صوت آخر يشير إلى هذا الجمع المرح السعيد بضمير الغائبين (تستخدم «سامية» الحروف المائلة كي تلفت أنظارنا إلى تغير الصوت وانفصاله عن الجمع):
كيف جرؤت تلك الحمقاء أن تلوّح بأيديها هكذا قاطعة خيوط أفكارهم؟ كيف اعتقدت أنهم سيستجيبون؟ ألم تكن تعلم أن الأشياء تبدو أقرب حين نراها من خلف الزجاج؟ ألم تدرك بفراستها وذكائها ومحاولاتها عبر السنين أن نداءها غير مسموع وأنه لم تعد هناك أرواح في أجسادهم الناعمة لتستجيب؟
هل رأيتم كيف استخدمت «سامية» هذا الصوت – صوت ’الشاهد‘ أو ’المعلق‘ الخارجي إذا جاز التعبير، المتميز عن الجمع وعن المرأة المستغيثة (يصفها ب ”الحمقاء“) - كي توحي إلينا بأن هذا ’الشاهد‘ قد فقد كل أمل في هؤلاء، وأنه يلوم المرأة على استمرارها في محاولاتها غير المجدية للاستغاثة بهم؟

يعود الصوت الأول (الذي يستخدم ضمير المتكلمين) ليقول:
مررنا من أمام السور الزجاجي ولوحنا بأيدينا مبتسمين. حاولنا! حقا حاولنا. لكنها لم تضحك على نكاتنا ولم تسمع أغانينا. تسمرت في مكانها وبدأت عيناها في التحول إلى كرات زجاجية. ومن عينيها إلى وجهها ثم عنقها ثم صدرها، في ثوانٍ أصبح جسدها كله تمثالا من الزجاج الشفاف، امتزج بالحاجز الزجاجي الذي يعزلنا عنها، فلم نعد نراها.
تنفسنا الصعداء وذهبنا آمنين مبتهجين.. لا تبدو علينا غربة ولا أحزان.
تنتهي القصة وتبدأ الأسئلة: أي عالم هذا الذي تُحدّثنا عنه؟ تتحدث عن سور زجاجي هائل، لكنه- كما ينبهنا العنوان- ”قزاز لكن زي المراية“، زجاج يعزلنا عما وراءه ويؤدي، في الوقت نفسه، وظيفة المرآة: نرى فيها صورتنا الخارجية، نُعجب بهذه الصورة تارة، نُفْتتنُ بها تارة أخرى، نرضى بها على مضض أحيانا، لا نصدّقها في بعض الأحيان، ننفر منها في أحيان أخرى، ننشغل بها كثيرا وربما طيلة الوقت، لكن المرآة تحجب عنا دائماً ما وراءها.

خطر لي، وأنا أقرأ هذه القصة، ما قاله الكاتب المسرحي البريطاني الكبير «هارولد بنتر» في حفل تسلمه لجائزة «نوبل»: ”حين ننظر في مرآة نظن أن الصورة التي تواجهنا دقيقة. ولكنك لو تحركت ميلليمتراً واحدا لتغيرت الصورة. تطالعنا المرآةُ الآن، في واقع الأمر، بصفٍ لا نهائي من الانعكاسات. لكن من واجب الكاتب، أحيانا، أن يحطم المرآة- ذلك أن الحقيقة تطالعنا محدِّقة في وجوهنا على الجانب الآخر للمرآة“.

هل هذا الحاجز الزجاجي هو شاشة التليفزيون التي تنقل إلينا ما نتوهمهُ صورةً حقيقية للواقع في العالم، بينما هي تعزلنا- في حقيقة الأمر- عن هذا الواقع، تلهينا عنه وتحوّلنا إلى مجرد متفرجين؟ هل هو حاجز نقيمه نحن داخل أنفسنا ونحرص أن يكون زجاجيا شفافا لأننا ممزقون بين رغبتنا في معرفة العالم ورغبتنا في الاحتماء منه للنجاة بأنفسنا؟ هل هو حاجز تقيمه السلطات المتحكمة فينا وتريده شفافاً حتى لا نفطن إلى وجوده؟..

هذه المرأة التي تلوّح طالبة النجدة، من وراء هذا السور الزجاجي العازل، هل هي العالم علي اتساعه بكل ما يجرى فيه من أحداث، بكل ما يشهده من كوارث لم نعد نكترث لها وبكل ما يحققه من تقدم لم نعد نشارك فيه؟ هل هي بلادنا التي لم نعد نأبه لما يحدث لها حتى أصبح الاهتمام ب’الشأن العام‘ سبةً ودليلَ تخلفٍ وعبثية في نظر البعض؟ هل هي ’الآخر‘ الذي نقيم المسافات بيننا وبينه، لا نكلّف أنفسنا مشقة فهمه، وننظر إليه في كثير من الأحيان كمجرد أداة لتحقيق أغراضنا ”والشاطر هو اللي يقدر يلوي دراع التانى ويجيب دماغه الأرض“؟ هل هي جماهيرنا المسحوقة، المُذَلة والمُهانة، المكتوية بنار الفقر والبطالة والقمع والإهمال والمرض؟ أم تراها نفوسنا التي لم نعد نجرؤ على النظر بداخلها وتركناها كالجثث الطافية على صفحة الماء، تحركها التيارات والرياح كيف شاءت؟

مر، هؤلاء السعداء بأنفسهم، من أمام السور الزجاجي ولوحوا بأيديهم للمرأة المستغيثة مبتسمين! لا يلبث جسد المرأة أن يتحول إلى تمثال من الزجاج يمتزج بالحاجز الشفاف، فيعجز الجمع اللاهي عن رؤيتها. هل يريد النص أن يقول لنا: من تجاهل العالم تجاهله العالم؟ من هانت عليه نفسه، فكف عن المشاركة في صنع الواقع وتغييره، هان على الناس؟... اختفت المرأة عن أنظارهم. أحست بعجزهم عن التواصل معها، فتنفسوا الصعداء، وكأنما إنزاح كابوس وجودها عن صدورهم، وذهبوا آمنين مبتهجين... لا تبدو عليهم غربة ولا أحزان!

هذه القصة الجميلة، على قصرها، ’نص مفتوح‘ يحتمل تأويلات وقراءات شتى..
ما أعنيه هنا بالنص المفتوح (open text) هو النص الذي ينطوي على مستويات مختلفة للمعنى، النص الذي يفتح الباب أمام تفسيرات متعددة ولا يسعى إلى حمل القارئ على التوقف عند تفسير واحد بعينه. نحن هنا بإزاء نص يشكِّل المجاز لحمته وسداه، يحدثنا بلغةِ تومئ أكثر مما تُفصح وتُخفي أكثر مما تُبدي. تقول «سامية» في ردها على أحد المعلقين (على قصتها ”إلى أسفل“): ”بحاول أرسم مشهد أو كابوس بنعيشه كل يوم.. وبنتعامل معاه كإنه مش موجود“. من هنا يبتعد هذا النوع من النصوص، بقدر أو بآخر، عن لغة السرد ’الواقعي‘ المألوف.

هذا، فيما أعتقد، نهج صعب محفوف بالمخاطر في الكتابة الأدبية، وفي القصة القصيرة بدرجة أكبر، ذلك أنه يقتضي قدرا من التجريد والاقتصاد في التفاصيل قد يصيب العمل الأدبي بالجفاف ويحرمه من تجاوب الكثير من القراء. لكنه، على الجانب الآخر، يمكن أن يكون سلاحاً فعالاً في يد الكاتب الموهوب لإيقاظ إدراك القراء وكسر ما يشعرون به من أُلفة وتعود، وربما عدم اكتراث، إزاء ما يجري أمامهم من أحداث. هذا الـ’كسر للشعور بالألفة‘ (defamiliarization) هو وظيفة جوهرية من وظائف الفن. لا غرابة أن تبرز أهمية هذه الوظيفة في أدب القرن العشرين (على سبيل المثال في أعمال «كافكا»، و’الواقعية السحرية‘ في أمريكا اللاتينية وفي مسرح «بريخت» و«هارولد بنتر»). ولا شك أن هذه الوظيفة تكتسب اليوم أهمية أكبر في عصر ’القرية الكوكبية‘ و’السماوات المفتوحة‘ الذي يعمِّق فينا، بصوره التي تتابع أمام عيوننا ليل نهار، هذا الشعور بالألفة.

من خلال هذا النص المُحكم البناء، بكل ما يوحي به من تفسيرات، تحاول «سامية» أن تهز هذا التبلد في مشاعرنا. تصرخ فينا: لابد من الإطاحة بهذا السور/المرآة! تقول لنا: لا أمل في هذه ’النخب‘ الناعمة الأجساد الميتة الروح، المولعة بمطالعة صورتها في المرآة، المشغولة ب’تناسق الألوان‘، ب’الديكور‘ البراق، بينما السوسُ ينخرُ البيتَ من أساسه والبناءُ كله مهددٌ بالانهيار! تستصرخ وعينا وضمائرنا: إلى متى نرضى بالهروب من قسوة الواقع، من عالمنا الذي ينْضَح بالكذب والظلم والجريمة، وراء هذا الحاجز الزجاجي الذي انقلب إلى مرآةٍ تُطالع كلاً منّا بصورته الخارجية وتُلهيه
الصرخة - إدفار مونش
بها، وتخفي عنا ذواتنا المنفصمة بين ليلِ، كله كوابيس، ونهارِ كله عجز مُذِّل، وأنانية عمياء، وخداع قاس للنفس؟ إلى متى نرضى لأنفسنا الاستمرارَ في التواطؤ؟ إلى متى نترك كلَ شيء للانهيار.. كلَ شيء حتى ذواتنا التي نتوهم أننا نحميها بهذا التواطؤ؟

قصة «سامية» هذه صرخةٌ أخرى تُذكّرني ب”صرخة“ «إدفار مونش» الشهيرة. لا عجب أن مست هذه القصة أوتاراً في مبدعين آخرين فتجاوبوا معها: ”آي يا سامية!“، تصرخ القاصة «رحاب بسام». ”جميل وموجع!“، يقول الشاعر «محمود عزت». ”القصة بديعة فعلا بس بتوجع أوي“، يقول الروائي «حسام فخر». ويعلّق الكاتب «ياسر ثابت» بأسى: ”لعنةُ أن نَرى.. أشدُّ وطأةً في بعض الأحيان من نعمةِ أن نتكلم“.
*****
لغة الكتابة الأدبية لـ«سامية»، لغة غنية بالمجاز، بالتشبيهات والاستعارات والكنايات. قلت في بداية المقال إن لغتها ”تكتسب على مر الأيام كثافة شعرية“. كتبت «سامية» نصا بعنوان ”عقل مستسلم لفوضى الأشعار“. لا شك عندي أنها عقل مستسلم لإلحاح الشعر. الشعر حاضر بقوة في كتابتها النثرية، نشعر به في كثير من صورها المجازية كما نشعر به في طريقة تقطيعها للجُمل وفي لجوئها إلى تكرار بعض المقاطع أحيانا. سأكتفي بأمثلة قليلة:
”في كل صباح ننهض من فراشنا، نخلع عن أجسادنا الكوابيس..
(قزاز لكن زي المراية)

وأظل أغوص في دوامة الهموم حتى تأخذني إلى القاع حيث تسبح طفلة صغيرة في غلالة من دموعها.
(العودة)

تهبُّ الطيور معا مثل أمواج البحر المتلاحقة ثم تنساب في هدوء وتتفرق.. ثم لاتلبث أن تتجمع وتحط على الأشجار مرة أخرى، فتبدو الأشجار، التي تساقطت أوراقها في الخريف، وكأنما أثمرت طيورا.
(العودة)

كان متربعا في قلبي ينتظر دموعي لترويه..
تفتح في قلبي رويدا رويدا فصرت أراه في كل شيء.
رأيته زهورا وبحارا وسماء،
سلاحا في يد رجل يدافع عن أرضه،
عيونا تبكي الشهداء.
وكان الحق الواضح الذي لا يفرض نفسه،
نفسي التي طالما اشتقت إليها..
وكان جميلا يحب الجمال.

(صليب كل يوم)

"يصعد اللبلاب من عمق البحيرة ويلتف حول ساقيّ العاريتين. يُحكم قبضته عليهما ويجذبني معه في بطء وثبات وقوة إلى أسفل.
("إلى أسفل"- بداية النص)

يصعد اللبلاب من عمق روحي ويلتف حول قلبي العاري. يحكم قبضته عليه ويجذبني معه في بطء وثبات وقوة إلى أسفل.
("إلى أسفل"- نهاية النص)
تتحرك «سامية»، مثلما يصف «السهروردي» نفسه، ”على شط بين جبال النثر على شمالي وبحور الشعر على يميني“. تطمح إلى تحدي المألوف والروتيني والمستهلك في الكتابة الأدبية. لا تكف عن التجريب وإن ظلت عينها دائما على ’التوصيل‘، على إبلاغ الرسالة، لأنها تحمل في جوانحها، كما قال الشاعر الإنجليزي «شللي» عن نفسه، ”توقاً عارماً إلى إصلاح العالم“.
*****
أكثر ما أحبه في شخصية «سامية» هو ما استشفه داخلها من إحساس عميق بالوحدة بين الطموح الشخصي وطموحات الأهل والوطن. تسعى بكل جهدها للتجويد في الكتابة.. تنأى بنفسها عن الادعاء والغرور فتسمي مدونتها ”محاولات سامية“.. تحرص، قدر طاقتها، على احترام قواعد النحو حين تكتب بالفصحى، و يتملكها الوسواس خوف الوقوع في الخطأ، فتقل الأخطاء مع كل تدوينة جديدة لها.. تحفظ قدراً كبيراً من شعر «صلاح جاهين» و«فؤاد حدّاد» ومن شعر «لوركا» و«بابلو نيرودا» بلغتهما الإسبانية التي تتقنها.. تتابع، باهتمام، الجديد في الأدب العربي والأجنبي ولا تخجل من الاستفسار والتعلم من كل من تعتقد أنه قادر على إفادتها.. تفعل كل ذلك لا لأنها حريصة فحسب على ’صورتها أمام الآخر‘ أو على تأكيد جدارتها بالانتساب إلى اسم أبيها العظيم، بل لأنها حريصةٌ أيضا على صورتها ’أمام نفسها‘، حريصةٌ- قبل ذلك- على إعطاء هذا الرصيد الشخصي للأهل والوطن. كأني بها تعيش في كل لحظة دعاءَ «فؤاد حدّاد»: ”يا رب ولا يتبدّل أبداً حمل الوطن من على أكتافي“.

سامية تغني مع فرقة إسكندريللا في مسرح الجراج - الجزويت - الإسكندرية
هل رأيتموها وهي تؤدي أشعار «فؤاد حدّاد» أو أغاني «سيد درويش» على المسرح، هل لاحظتم كيف تحتشد معها، وتطاوعها، كلُّ خلجةِ في كيانها؟ هل رأيتم كيف تضيءُ العينان، كيف يتملك الإيقاعُ القدمين، كيف تتغير ملامحُ الوجه ونبراتُ الصوتِ بطواعيةٍ، وفي سلاسةٍ، وكأنما بغير جهد؟! هل سمعتموها وهي تقدّم بصوتها قصةً قصيرةً لصديقتها «رحاب بسام»؟ لا.. ليس هذا مجردَ حرصٍ على الصورة أمام الآخر. لا.. «سامية» لا تتزين لمواجهة الآخر! «سامية» تعطينا حقيقةَ نفسها، تعطينا جَمالَها الداخلي الباهر بحق: الوفاءَ للقيم الكبيرة في حياة هذا الوطن، لرجالٍ مثل «سيد درويش» و«فؤاد حدّاد» و«صلاح جاهين»، الحرصَ على أن تكون جديرة بالانتساب لهم، ثم الوفاء للصداقة أيضا.

تقول سامية في تدوينة لها: ”الشكل الخارجي مسألة ثانوية و لا قيمة لها طالما ظللت لا أرى في داخلي أي شيء جميل“. (ثقل مألوف)
*****
لا غرابة، إذن، أن يكون لـ«سامية» هذا ’الحضور‘، يبادلها الناس حباً بحب وعطاءً بعطاء. يستشفون فيها، هم أيضاً، هذا الجمال الداخلي. يشعرون بها واحدة منهم. إقرأوا تعليقات بعض زملائنا المدونين ممن لا تربطهم ب«سامية» صلة شخصية مباشرة:
  • ”سامية. لا أعرف كيف أصف آدائك سوى انك كنت تغنين بكل ذرة في كيانك، فملامح وجهك تتشكل مع الكلمات، ويداك ترسمان الألحان في الفضاء، وجسدك كله ينطق الحروف ببلاغة يُحسد عليها.“
  • ”كنتي هايلة وعديتي الجمهور فعلا بحالة الحب والانتشاء اللي كنتي فيها. ربنا يخليكي لنا يارب.“
  • ”كان معايا واحد صاحبي أسباني ومكانش فاهم الكلام خالص
    بس كان حاسس بحضور طاغي للفرقة
    خصوصا انتي
    بتبقي منفعلة وبتغني كأنك بتتكلمي مع الناس.“
  • ”زوجي بيقولي الجميل في أداء سامية إنك تحسي انها واحدة من العيلة كده مفيش بينا وبينها أي تكليف.“
*****

هل تسمحون لي، بعد هذا كله، أن أقول إن «سامية» قيمةٌ تُضاف إلى رصيد الوطن وتكبر مع الأيام.

لا تزال «سامية» في مقتبل العمر ولا يزال الطريق أمامها طويلا...

قلبي معها!

١٥ فبراير ٢٠٠٧

رحاب بسّام

 No man is an Iland, intire of it selfe; every man is a peece of the Continent, a part of the maine… And therefore never send to know for whom the bell tolls; It tolls for thee 
«John Donne»
(”ليس هناك بين البشر من هو جزيرة مكتفية بذاتها. كل إنسان جزء من أرض تمتد بلا فواصل، جزء من الكل... لا تبعث إذن أحداً ليخبرك بمن تنعيه الأجراس، فالأجراس تنعيك أنت.“)
الشاعر الإنجليزي «جون دن» (1572-1631)

قال لي أستاذ للأدب العربي، يعمل بإحدى جامعات الولايات المتحدة، إن «رحاب بسام»، صاحبة مدونة «حواديت»، هي أخف المدونين المصريين ظلاً. وقلت له: هذا صحيح. ولكنها من أكثرهم حزناً أيضاً.

مدونة «حواديت» سكر مُر: مزيج من شقاوة الأطفال الحلوة وفزع الكبار المر من الحياة!

*********

حواديت رحاب بسام
«رحاب» قارئة نهمة: أتابع باستمرار الكتاب الجديد الذي تضعه تحت مخدتها بأسفل الجانب الأيمن من الصفحة الرئيسية (الكتاب وليس المخدة!). وهي عاشقة أيضا للبطاطا والآيس كريم والبطيخ وعالمة متبحرة في ”أصابع زينب“، ولها في هذا المجال طقوس وأفانين ومجازات لغوية غير مسبوقة منها مثلا ”إني أسبح في المهلبية تماماً“ و”أنا أسير على ساقين من الجيلي“. هل تذكرون قصتها الجميلة ”أرز باللبن لشخصين“؟ هل رأيتم مدى الحب والاستغراق المطلوبين ”لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين“؟ : ”بإحساس مرهف اضيفي رشة من القرفة وأخرى من الفانيليا، كل رشة بيد. افركي يديك سوياً ومرريهما باستغراق على رقبتك. الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح“. هكذا تكتب «رحاب»، فيما أتخيل، نصوصها. تعطينا كل كيانها. الكتابة عندها طبق شهي يتقاسمه الكاتب مع شخص يحبه. تحب قراءها وتحترمهم!

لا شك أنكم لاحظتم، مثلي، شدة تعلقها بطفولتها: صورتها، التي تطالعك إلى يمينك على رأس المدونة، صورة طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها، ثم الصورة الجميلة للحذاء الأحمر الصغير، مع الجورب الوردي، يطلان علينا من قدمي طفلة تحت عنوان عميق الدلالة: ”أنا عندي حنين“، ثم التدوينات الكثيرة التي تتحدث فيها عن طفولتها أو عن أطفال من أسرتها (على سبيل المثال ”جمال الدنيا وحقيقة الأشياء“ و”حنين“ و”أنا، بس على أكبر“ و ”خطوات جديدة“)، وعناوين بعض القصص مثل ”تناتيف من غزل البنات“ و”الخرتيت البمبي البطيء“، وما نستشفه في عالمها من حنين جارف إلى الطفولة وتعلق بها حين تقول مثلا: ”زينت سقف غرفتي بالنجوم والزهور الفسفورية. كيف نسيت الفراشات؟ لماذا لا توجد فراشات فسفورية بجوار الزهور الفسفورية؟

لا شك أنكم لمستم أيضا ما تنضح به كتابتها من ولع شديد ب’الشقاوة الطفولية‘ في نصوص مثل:
كم سيكون رائعاً لو عملت في مجال بلالين الصابون: أجلس على دكة خشبية تحت شجرة ظليلة وأمامي صندوق خشبي عليه جردل كبير، وأكواب بلاستيكية، وقطع من خرطوم بلاستيكي. يأتي الأطفال ساعة العصاري ليشتروا مني أكواب الصابون، المخلوط بقليل من السبرتو، فهو الذي يجعل البلالين ملونة، هذا هو سر الصنعة.أو:
أفكر في عمودي الفقري: أبدأ في تلوينه بالأزرق الجميل، من أول فقرة لآخر فقرة..أو:
جيت أقوم من السرير ما عرفتش. قمت واقفة على راسي. بصيت لفوق (بالمشلقب)...
تأملوا، مثلاً، المفارقة بين اللغة الرصينة والنبرة الجادة في عبارة مثل: ”كم سيكونُ رائعاً لو عملتُ في مجالِ بلالين الصابون... هذا هو سرُ الصنعة!“، وبين مضمون هذه العبارة. ألا تفجّر فيكم هذه المفارقة ضحكة صافية من أعماق القلب؟

لا شك أن هذه ’الشقاوة الطفولية‘ تعطي لنصوص «رحاب» الكثير من جاذبيتها وخفة ظلها. من منا لا تبهره قدرة الأطفال على التعبير بعفوية وبراءة؟ من منا لا يتوق إلى هذه الطلاقة المتحررة من حسابات الكبار و وساوسهم؟ ألا يخالجنا أحياناً حين نعود إلى صورنا في أيام الطفولة، أو حين تبهرنا رسوم الأطفال وكلامهم، شعور يجعلنا نقول مع «صلاح عبد الصبور»:
”لو أننا.. لو أننا..
لو أننا، وآه من قسوة ’لو‘
...
لكننا...
وآه من قسوتها ’لكننا‘
لأنها تقولُ فى حروفها الملفوفةِ المشتبكة
بأننا نُنكرُ ما خلّفَتِ الأيامُ فى نفوسنا
نودُ لو نخلعُهُ.. نود لو ننساه
نود لو نعيدهُ لِرحمِ الحياة“
لكن هذا الحنين إلى الطفولة، الذي قد يوجد في نفوس كثيرين، يتسع عند «رحاب» ليظلل كل عالمها. مما يلفت نظري أيضا أنه يلقى تجاوباً واسعاً من قراء مدونتها وبخاصة الإناث منهم. تقول إحداهن لها: ”في طفولة جميلة وصادقة قوي في كتاباتك يا رحاب“. أتساءل هنا: هل تعبّر «رحاب»، بهذا الحنين إلى الطفولة والتعلق بها، عن شعور عام لدى شبابنا ولدى الشابات بصفة خاصة؟ هل هو مجرد الاحتياج الأنثوي إلى حنان الأم (والأسرة) وإلى ممارسة الأمومة (to mother and to be mothered)....؟ أم أن هناك أسبابا أخرى تتصل بمجتمعنا المصري على اتساعه وبظروفنا الاجتماعية الراهنة؟ أتجاسر هنا فأزعم أن هذا الشعور بالحنين إلى الطفولة يكاد يشكل الآن ظاهرة عامة لدى الشباب من بنات وأبناء الشرائح الميسورة نسبيا من طبقتنا الوسطى. بطبيعة الحال يتفاوت عمق هذا الشعور من الإناث إلى الذكور ومن فردٍ إلى آخر. لكن تأملوا معي أبناء وبنات هذه الشرائح الميسورة نسبيا من الطبقة الوسطي وهم يخرجون إلى الحياة العملية (’صدمة الولادة الثانية‘ كما أسميها!) ليصطدموا بعالم شديد القسوة والخشونة: خطر البطالة قائمٌ دائماً، والصراعُ على فرص العمل المتاحة معركةٌ ضارية يخوضها الكل ضد الكل، وأحلامُ تحقيق الذات تتمزق وتنتهي في كثير من الأحيان إلى الإحباط المُر واليأس القاتل وربما الاكتئاب الذي لا شفاء منه، والتنازلات المطلوبة تكاد لا تنتهي في عالم يحكمه الفساد، والمحسوبية، والرشوة بكل صورها. كل الأسلحة أصبحت مشروعة وشائعة الاستخدام في هذا الصراع الضاري: قوانين العرض والطلب تجعل السادة المتحكمين يطلبون الكثير جداً وتُجبر الآخرين على دفع الثمن الفادح. إذا لم تدفعه أنت هناك آلافٌ غيرك مستعدون لدفعه. والضغوط التي تتعرض لها الإناث أقسى بكثير مما يواجهه الذكور..

هل أبالغ؟ هل تجدون هذه الصورة بعيدة عن الواقع؟ هذه، على أية حال، هي الصورة العامة كما تبدو لي من واقع خبرتي الشخصية ومما أسمعه من الآخرين. أليس طبيعياً، إذن، أن يحن هؤلاء إلى طفولتهم؟ أن يحلموا بالانسحاب من هذا العالم القاسي الشديد الخشونة، الذي لا تدليل فيه، إلى عالم حواديت الجدات، عالم اللهو والانطلاق والشعور بالأمن يسبغه عليهم حنان الأهل والبيت حيث الظروف ميسرة نسبيا لإشباع احتياجات الطفل؟ أكرر هنا مرة أخرى أن هذا الشعور يتفاوت قطعاً من فردٍ إلى آخر باختلاف ظروف النشأة، ولكن هذه هي الصورة العامة. أبناء الطبقات الفقيرة ’المخربشين‘ لا يتملكهم في الغالب هذا الشعور بمثل هذه الدرجة من العمق، فهم يفتحون عيونهم على قسوة الحياة وخشونتها منذ نعومة أظفارهم. كذلك شأن أبناء الفئات التي تحتل قمة الهرم الاجتماعي، فهؤلاء أمورهم ميسّرة وأماكنهم في الغالب محجوزة سلفا أو يمكن تدبيرها بسهولة بقوة النفوذ أو بقوة المال. هؤلاء لا يعانون، في الغالب، ’صدمة الولادة الثانية‘ أو،على الأقل، لا يعانونها بنفس القسوة.

لا أريد بهذا التفسير أن أغمط «رحاب» حقها. كل ما أريد قوله هو أن كتابتها تمس أوتاراً في قلوب كثيرين من المدونين وقراء المدونات. هناك، إذا جاز التعبير، ’طلب اجتماعي‘، في عالم المدونات الصغير، على مثل هذا النوع من الكتابة! لا غرابة أن يقول أحد المعلقين على قصتها الجميلة ”الشباب الدائم للألوان“: ”....حظي معاكي انك بتلمسي الوتر الحساس...الوضع الراهن... الحالة عموما.“، وأن يقول معلق آخر: ”نفسي أبقى أبيض، أو الأصح أرجع أبيض. أنا فاكر إني كنت أبيض في يوم من الأيام“.

هذا الحنين إلى الطفولة يعبر عنه أيضا شاعر موهوب ينتمي إلى جيل «رحاب» هو «عمر مصطفى» صاحب مدونة «تجربة»:
”عيِّل..
باحب ده علشان باحبه و مابكرهوش..
حتى لو كان مش جميل
ولسّه وشّى.. محتاجش لرتوش
ولسّه قلبي.. ماحتاجش لبديل
باحلم بنفسي طويل طويل
واما يجينى نعاس باميِّل
عيِّل.. “
لكن كتابات «رحاب» تعطينا ما هو أكثر من مجرد الحنين إلى الطفولة. تعطينا شعورا بالخوف من مرور الزمن. هل هو شعور أنثوي ضاغط هذا الخوف من مرور الزمن؟ وهل هو سبب آخر يفسر التجاوب الذي تلقاه من قارئات مدونتها؟

أكثر من ذلك، يقترن هذا الخوف من مرور الزمن، في نصوص «رحاب»، بحلم مستحيل هو الإفلات من قبضة الزمن! تبدو هذه الرغبة المستحيلة واضحة جداً في نصين جميلين هما ”عن نبع يترقرق وغابة تحجرت“ و”الشباب الدائم للألوان“.

في ”نبع يترقرق“ تقول الراوية: ”... تمنتْ لو تُثبّتْ عناقهما هذا أيضا. فيظلان هكذا للأبد: هو نائم على صدرها، وهي تقبّل جبهته مرة واثنتان، وثلاث. سيظلم العالم من حولهما، ويستريح التراب فوقهما [...] ولكن لن يفارق هو حضنها، ولن تشتاق جبهته لشفتيها. وبمرور الزمن تصير هي النبع الذي لا تعرف غابته غيره. فتترقرق ويتحجر، حتى يفلتهما الزمن من قبضته“. (يخطر لي هنا قول الشاعر الجاهلي: ”ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ تمضي الحوادثُ به وهو َملْمومُ!“ كان يحلم هو الآخر بالإفلات من قبضة الزمن. لكن المرأة في هذه القصة تتمنى ما هو أكثر: تثبيت اللحظة إلى أن يتحجر هو بينما تظل هي نبعاً أبدياً يترقرق!).

في ”الشباب الدائم للألوان“ تقول المرأة: ”لماذا؟ اسمعني: يهدر الإنسان عمره وهو يحاول أن يعرف ماهيته، وهو يحاول أن يبحث عن طريقه، وهو يحاول أن يكون شيئاً آخر. ولكن هذا الموضوع محسوم بالنسبة للألوان“. المرأة، التي تحدثنا عنها الراوية في هذا النص، تريد لنفسها هوية ثابتة، خضراء دائمة النضرة، ”بطعم الشمام المثلج!“. في هذه القصة صورةٌ، قاسيةُ الجمال، لهذه المرأة التي تحلم بهوية أبدية تحتمي بها من عوادي الزمن: ”تنهدتْ. وضعتْ جانباً غربالَ الأحلام ولملمتْ أطراف جناحها وجلستْ القرفصاء“. (اشعر هنا ب «سارتر» يتقلب في قبره. ألم يكن هو القائل بأن ”الوجود سابق على الماهية“، وبأن ”الإنسان محكوم عليه بالحرية“، بمعنى أن الإنسان يأتي إلي الوجود ثم يبدع ماهيته من خلال الفعل الحر؟ هاهم شبابنا قد أرهقهم هذا السعي المضني إلى تحقيق الذات، وإبداع الهوية من خلال الفعل، في عالم القيود والسدود الذي نعيشه! أشعر أيضا ب «باولو كويلو» يمصمص شفاهه: لماذا لا تحشد هذه المرأة كل قواها لاستحضار’روح العالم‘ لتكون معها وهي تشق طريقها إلى ما تريد؟ الراوية هنا تشعرنا بأن عصر هذا ’الكلام الكبير‘ قد انتهى. أحلامنا تتسرب من الغربال، وعلينا أن نلملم أطراف جناحها. ليس هذا عصر إبداع الهوية بل عصر ’القتل على الهوية‘!).

ليست هذه بالتأكيد مجرد ’شقاوة طفولية‘، ليست الخيال الطليق للطفل كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. الطفل لا يخاف عادة من مرور الزمن، يحلم دائما بأن يكبر، بأن تمر الأيام حتى يصبح مثل الكبار وتصبح له قدرتهم وحريتهم. لسنا أيضا أمام مجرد الخوف الأنثوي من الزمن، الذي يولي الأدبار، والفزع مما قد يحمله مقبل الأيام. أشعر هنا أننا أمام فزع من الحياة نفسها وما آلت إليه، ملل قاس من الحياة الراكدة المكرورة. تقول «رحاب» في نص آخر: ”هناك شيء قاس جدا في مرور الأيام بمنتهى العادية. إيه الدنيا دي؟ لماذا لا تتوقف وينقلب كيانها لتشاركني حزني؟ أم هي مثلي: تستيقظ كل يوم وتمارس حياتها العادية و تحاول ألاّ تتوقف عند ما يؤلمها؟“. إن كان ثمة بصيص من أمل قد بقي في هذا العالم فهو الأمل في حدوث معجزة: أن نتحول إلى نبع يترقرق أو إلى خضرة دائمة النضرة.. أن يُفلتنا هذا الزمن الرديء من قبضته التي تخنقنا! هذا الحلم باستمرار القدرة على التجدد والعطاء، أو على الأقل بالتطلع إلى التجدد والعطاء، يكتسب في نصوص «رحاب» عمقاً يجعلني أحس به وقد تحول من شعور أنثوي مألوف (حرص الأنثى على نضارتها وجاذبيتها وتعطشها الغريزي إلى الأمومة) إلى شعور عام يتملك الآن أجيالنا الشابة المحبطة، المتعطشة مع ذلك إلى معجزةٍ ما تتيح لها فرصة التجدد وتحقيق الذات.(لعل هذا الحلم بالمعجزة يراود الكبار أيضا: قال لي الروائي المصري الكبير « بهاء طاهر»، في مناقشة دارت بيننا منذ سنوات، ”إن الشعب المصري له ’ميكانيزماته‘ الخاصة للتغلب على الأزمات“. عنده، هو أيضاً، نفس الحلم بأن يحدث التغير المنشود من خلال طرق لا تخطر لنا على بال ويقصر عن إدراكها وعينا الراهن! لكنه يحلم بمعجزة تحقق الخلاص الجماعي لا الفردي. مازال يعيش، مثلي، في عصر ’الكلام الكبير‘! مازال يؤمن، مثلي، بأن التاريخ لم ينته بعد!).

تقول
«رحاب» رداً على أحد المعلقين: ”أنا عادة ما اقدرش أقول غير اللي بحس به“. ليس من قبيل الصدفة، إذن، أن يكون الراوي في غالبية نصوصها هو ’الأنا السارد‘ (صوت الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلم)، بل وأن يتماهى هذا ’الأنا السارد‘ في كثير من النصوص مع ’المؤلف‘- أي مع «رحاب بسام» نفسها- مما يجعل بعض هذه النصوص أقرب إلى ’اليوميات‘ (diaries) منها إلي الأشكال السردية الأخرى المنتمية إلى ما يسمى ب ’القص التخيلي‘ (fiction). حذار أن يظن أحد هنا أن هذا يقلل من شأن نصوص «رحاب»، ف’اليوميات‘ نوع أدبي لا يقل أهمية ومكانة عن أي شكل سردي آخر وتندرج في إطاره نصوص لأكبر الكتاب، وربما كان هو الشكل السردي الأقرب إلى روح ’التدوين‘. أريد أن أقول هنا بوضوح- حتى لا يساء فهمي- إنني لا اقصد بذلك التقليل من قدرة رحاب على كتابة ’القص التخيلي‘، فقد برهنت بالفعل على براعتها في كتابة ’القصة القصيرة‘، بمواصفاتها المعروفة، بلغة طازجة ومتميزة (انظر مثلا: ”عالم صغير“ و”الشباب الدائم للألوان“).

تأملوا معي، مثلاً، تدوينتها ”محاولة لترجمة الحياة“. هل يخامركم أدنى شك أن الراوي- ’الأنا السارد‘- هنا هو «رحاب بسام» نفسها؟ في الفقرة الأخيرة من هذا النص نقرأ: ”وعندما لاحظت أستاذتي أنني أنظر لها بتركيز شديد...، اوقفتْ التسجيل وسألتْ: ’في إيه يا رحاب؟‘“. كان بوسع المتابع لمدونة «رحاب»، حتى بدون هذه الإشارة الواضحة، أن يدرك أن «رحاب» تحدثنا في هذا النص عن نفسها. هذا ما يجعلني أقول أن هذا الشكل أقرب إلى ’اليوميات‘.

أشعر هنا ب«رحاب» تسألني: ”طيب وبعدين.. عاوز توصل لإيه؟“ ما أريد أن أصل إليه هو أن ’الراوي‘ في معظم نصوص «حواديت» يتماهى مع ’المؤلف‘ وتشحب الحدود بينهما إلى الحد الذي يجعلنا نقول: هذه «رحاب» تتحدث عن نفسها! هذه نصوص أقرب إلى ’البوح‘ تكتبها أديبة تزداد على مر الأيام تمكناً من أدواتها، بارعة في اجتذاب انتباه قارئها إلى ما تحكيه. (أتساءل هنا هل يشترك الأديب/الأديبة مع الطفل في هذا الاهتمام البالغ بشد انتباه الآخرين إلى ما يقوله؟).

سألت باحثة أدبية شابة، أثق في حسن تقديرها، عن رأيها فيما تكتبه «رحاب»، فقالت لي إن عالم «رحاب» شديد الذاتية، وإنها تنسحب، في رأيها، من ’العام‘ إلى ’الخاص‘. وقلت للباحثة الشابة: المفارقة هنا أن هذا الانسحاب من العام إلى الخاص يعبر عن موقف عام، إن لم يكن لدى غالبية المصريين (الأغلبية الصامتة كما يسمونها) فعلى الأقل لدى قطاع عريض من شبابنا.

هذا، في اعتقادي، سبب رئيسي للتجاوب الواسع الذي تلقاه نصوص رحاب من قراء مدونتها. حين نعود إلى تدوينة ”محاولة لترجمة الحياة“ نجدها تنتهي بالجملة التالية: ”ففتحت فمي فلم يخرج سوى: ’أنا خايفة أوي‘“.

هكذا تترجم «رحاب» ’الحياة‘ (بألف لام التعريف). ترفض رأي بعض المعلقين الذين قالوا إن العنوان واسع على ’القصة‘. تصر على أن هذه ترجمة لـ’الحياة‘. الحياة أصبحت، في إحساسها، مرادفة للخوف (”أنا عادة ما اقدرش أقول غير اللي بحس به“). تعالوا لنرى كيف تجاوب المعلقون، ومعظمهم من الإناث، مع هذا النص:
  • ”تفاصيل جميلة لسرد واقع يومي محفوف بالقلق والتوتر“
  • ”أنا كمان عندي حالة فزع من كل الشوارع. مؤلم قوي إن دي تبقى حالة عامة“
  • ”خوفنا وحذرنا زاد الف مرة.. حتى اصحابي عندهم نفس الإحساس“
  • ”متهيأ لى إنه خوف داخلي أو خوف من الدنيا نفسها“
  • ”قلت اللي أنا بحس بيه..بس يفضل في الآخر احساس بقى رابض جوايا يارحاب، من ’ده‘ مع أشياء أخرى..خايفة أوي“
  • ”عشت القصة بكل تفاصيلها معك.. سيء الشعور بالخوف.. سيء جدا“
  • ”أنا خفت لما قريت كلامك“
  • ”يمكن الخوف كان مالينا من زمان.. بس ما قدرش يخرج غير دلوقتي..أنا بقيت بخاف جدا ومخنوقة من شعور الخوف ده“
  • ”الحياة عن جد مقرفة“
هل رأيتم مدى التجاوب؟ «رحاب»، التي تبدو لنا محارةً بحرية تحتمي بصَدَفتها الصلبة، يتردد صدى كل خلجةٍ فيها في كل المحارات الأخرى المحتمية وراء صَدَفاتها في بحيرة التدوين!

لكن هناك مُعلّقاً آخر يقول: ”حسيت إن الخوف أو (الرعب) بالصورة دي هنا غير مبرر. حسيت إن فيه أسباب تانية غير مكتوبة“. قراءة هذا المعلّق مختلفة في اعتقادي لأنه يحصر نفسه داخل هذا النص وحده، لأنه قرأه كقصة قصيرة مكتملة العناصر، مكتفية بذاتها إذا جاز التعبير.

حين نعود إلى النص لنعرف السبب في كل هذا الرعب الذي استولى على «رحاب» سنجده:
مجموعة أولاد يسيرون خلف وأمام و بجوار مجموعة بنات. ”الأولاد يعاكسون البنات، والبنات يضحكن أو يسرعن أو يتمايلن أو ينهرن الأولاد“.. ”ولد لا يمكن أن يتعدى الثانية عشرة من عمره يشتمهن [بأقذع الشتائم] ثم يجري“.. ”الأولاد أخذوا في الاقتراب أكثر من البنات، والتطاول عليهم بالكلام، والبنات توترن وأخذن في الرد على الأولاد...“

عندئذ، تقول لنا «رحاب»: ”يخفق قلبي بعنف حتى أشعر به يضغط على رقبتي ويكتم أنفاسي“ (تمْثُل في وعيها أحداث ’التحرش الجنسي‘ التي وقعت قبل أسبوع في وسط المدينة).. ثم تقول في النهاية: ”ففتحت فمي فلم يخرج سوى: ’أنا خايفة أوى‘“.

تستخدم «رحاب»، ببراعة، تقنية ’الكولاج‘ (لصق عناصر خارجية تقطع السياق وتبدو في ظاهرها غير متصلة به) لتعميق إحساسنا بالخوف الذي استولى عليها. هذه الفقرات الباردة الروتينية المستمدة، فيما يبدو، من كتاب مدرسي لتعليم الترجمة الفورية، تعمّق بالفعل شعورنا بالإيقاع اللاهث المشحون بالانفعال في هذا النص السردي، وتضفي درامية على شعور الراوية («رحاب») بالتمزق بين هذه ”التعليمات“ المطلوب منها الانصياع لها وبين الواقع الذي تعيشه، بين عملٍ، يقتضي منها أقصى قدر من التركيز والتحكم، وظروفٍ، داخلها وخارجها، تُجْهز على أي قدرة للتركيز والتحكم!

قد تبدو لنا ’استجابة‘ «رحاب» (”انا خايفة أوي“) لـ’المثير‘ (الأولاد الذين يعاكسون البنات) مبالغاً فيها. فهذا مشهد يومي مألوف في شارع «الشيخ ريحان » حيث توجد مدارس للبنين والبنات في سن المراهقة. ولكن هذه الاستجابة تبدو لي طبيعية تماما من «رحاب» كما أعرفها من خلال مدونتها، رحاب التي تقول لنا في تدوينتها ”أن تنسى“: ”أن تنسى هو أن يمضي اليوم بدون أن تتساءل ماذا يفعل ذلك الشخص الآن.... أن تعتاد أن تكون وحدك، أن تقتنع أنك وحدك“...”أن تنسى هو أن تكتشف الصمت، بعد صخب كل تلك الأفكار وكل ذلك الكلام الذي تتمنى أن تقوله“... [هو أن] ”تتوق للعودة إلى المنزل والنوم مبكرا لتنهي هذا اليوم بيدك، لتشعر أن وسط هذا العبث مازال لديك الاختيار بين أكثر من طريقة لإهدار أيامك“. (تخطر لي هنا أبيات لـ«إليوت»: The only hope, or else despair/ Lies in the choice of pyre or pyre/ To be redeemed from fire by fire). كانت رؤية ذلك المشهد هي القشة التي قصمت، في تلك اللحظة، ظهْر ”الخرتيت البمبي البطيء“ وأخرجت كل مخزون الخوف الرابض في أعماقه!

أريد أن أتوقف، في النهاية، أمام تدوينة ”فوضى التكوين“..

أبدأ بـ’الاقتباس الاستهلالي‘ (epigraph) المأخوذ من قصيدة ”أغنية العاشق بروفروك“ للشاعر الإنجليزي العظيم «ت. س. إليوت». أخذت «رحاب» مقطعاً من القصيدة يحدثنا عن ”الضباب الأصفر الذي يحك ظهره على زجاج النافذة“، ”الدخان الأصفر الذي يحك أنفه في زجاج النافذة“، بعد أن ”لعق بلسانه أطراف المساء“. سأتجاسر هنا وأعرض عليكم قراءتي النثرية لهذا المقطع من القصيدة:

ظلمةُ المساء تهبط مختنقةً بالضباب- التشوش وتعذر الرؤية- والدخان- ثمة شيء يحترق!- حيوانٌ أصفر هائل يحاصرنا ويحاول بإلحاح أن يقتحم الدار علينا- يحك ظهره ثم يحك أنفه على زجاج نوافذنا! تتكرر كلمة ”الأصفر“ مرتين فتستدعي في نفوسنا صفرة الذبول وصفرة الموت. لا يريد هذا الحيوان الأصفر الهائل أن يرحل عنا: يتلكأ وهو يدور حول الدار، يترك ”سناج المداخن يسقط على ظهره“ (يستخدم «إليوت» كلمة soot أي السناج أو ’الهباب‘ الحالك السواد)، يغشى السوادُ الصفرةَ فتكتمل الدائرة: ظلمة و تشوش واحتراق وذبول وحزن رابض لا يريد أن يرحل! لا يلبث الحيوان الأصفر الهائل المجلل بالسواد أن يلف جسمه حول الدار- يحاصر الدار- ويروح في النوم! هنا مكانه ومستقره!

هذه هي ’عتبة‘ الدار التي تأخذنا إليها الراوية. هنا لا تستخدم رحاب ’الكولاج‘، القص واللصق المحسوب بدقة وعناية، على نحو ما استخدمته من قبل، بل تقدم عملا أقرب إلى اللوحات المصنوعة من قصاصات متعددة المصادر تبدو، في ظاهرها، دون نسق محدد أو واضح يحكم تشكيلها في اللوحة (patchwork). إنها ”فوضى التكوين“: قصاقيص من هنا وهناك: أصداء حوارات محبطة، و مقاطع وأبيات من قصائد تلح على الذاكرة، ومونولوج طويل متناثر، ممزق ومتلجلج، يمتد بطول النص:
فيرجينيا كانت بتسمع أصوات... [...]
 
حاسة إني تلاجة... مقفولة... ومخزنة الحاجات جواها... وبتفتح حتة صغيرة أوي... تديك حاجات باردة ومالهاش طعم... وكل اللي بتاخده بتبرده وتشيله.
 
عارفه إن إليوت كان في مصحة عقلية؟ [...]
 
’كتابة علاجية؟ هأو أو أو...شي الله يا علاجية!‘ [...]
 
’لأ لأ...حاسة زي ما أكون حتة خشبة ناشفة...عندها استعداد تام للاشتعال في أي لحظة.‘
 
- سامع الصوت ده؟
- صوت إيه؟
- صوتي...وأنا باتفتت...حتت صغيرة...صغيرة... [...]
 
بيقولوا إن مضاد الاكتئاب بيخليكي تقومي من السرير وتروحي الشغل... إزاي يعني؟... [...]
 
دماغي ترابيزة بلياردو... [...]
 
ولما سألوني وإنتي عاملة إيه قلت لهم أنا زي ما أنا...وحسيت إن في صاعقة هتنزل من السما على راسي علشان دي أكبر كدبة كدبتها في حياتي...أنا أكيد مش زي ما أنا... [...]
 
- أنا ماعنديش أحلام بتتكرر...هو بس حلم النمر اللي بيجري ورايا وبيت جدتي في أبو قير اللي بيتحرق.
 
في عمر بيولوجي محدد لجسم الست. [...]
 
تفتكري هنبقى زي الست دي لما نكبر؟... [...]
 
روح العالم يا سيدي إديتني بمبة المره دي... [...]
 
وبعدين قعدت وقت طويل أوي أفكر في المسافات التانية... اللي حطتها واللي لسه باحطها... بيني وبين الناس... بيني وبين نفسي.
تقول الراوية في نهاية مونولوجها المتناثر: ”عاوزه أقف فوق الجبل ده واصرخ بعلو صوتي: ’فلتحل الفوضى على العالم... وليخرس الجميع إلى الأبد!‘“.

تتخلل هذا المونولوج ’قصاقيص‘ مأخوذة من شعراء يحدثوننا عن الزمن الضائع والعمر المهدر والتشوش والزيف والحيرة والعجز عن التواصل: ”فجأة لقيتني في عز حياتي/ ضاعت مني ثواني كتيرة.. [...] والدمع اللي في عيني بيوجع/ مابينزلش.. ومابيطلعش.“ («أمين حداد»)، و”ما بقيتش شايف إيه اللي جاي وإيه إللي فات/ مابقيتش أفرّق ده أزرق ده ولا أحمر رمادي/ ودي كارثة ولا ده وضع عادي..“ («علي سلامة»). يتخلل المونولوج أيضا ’تصريف‘ لفعل ”كان“ (فعل الكينونة verb to be) : ”أنا أكون أنت تكون هو يكون هي تكون نحن نكون أنتما تكونان أنتم تكونون هم يكونون“. هل تحاول الراوية أن تتشبث بكينونتها- بوجودها- وسط كل هذه الفوضى وهذا الزيف وهذه الحيرة؟ هل تحاول أن تعزي نفسها بالقول بأن هذه الفوضي هي حقيقة الوجود والكينونة والتكوين(كلمة ”التكوين“ في العنوان مراوغة وتحتمل معاني كثيرة عند القراءة)، أم تراها تريد أن تقول لنفسها باستنكار: هل هذا وجود ؟ هل هذه كينونة؟!

أترك هذا السؤال مفتوحا، وأتوقف عند ’قصقوصة‘ أخرى مأخوذة من قصيدة لـ«بهاء جاهين»: ”أنا كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر أنا كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر أنا كبايات....“ تكررها الراوية خمس مرات بدون فواصل، ثم تنشغل عنها بصدى حوارٍ عقيم مع آخر لايفهم، لكنها تعود لتكمل الصورة: ”والخلق ما بتشربش!

ترجع الراوية لتقول: ”أنا بحب الأبيات دي أوي... ودايما لما باقراها باحس إنه بيتكلم عن قلبه... “

يتكلم عن قلبه؟ ربما. وربما أيضا يتكلم عن محنة الشاعر في هذا الزمن: ليس هذا زمان الشعر!

ليس هذا زمان الشعر. ليس هذا زمان تحقيق الذات.هذا زمان الحوارات العقيمة. هذا زمان الطاقات المهدرة والمواهب الموءودة.

من ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه القدرة على معرفة الآخر، بأي قدر من اليقين، وسط كل هذا الضباب الأصفر؟ كلنا نقيم المسافات بيننا وبين الآخرين وبيننا وبين أنفسنا. كلنا نتمزق إلى قصاصات تتبعثر وتضيع !

هذا ما أقرأه في ”فوضى التكوين“!

أسأل هنا : كم مليونا من شبابنا - إناثا وذكورا- يحسون بأنفسهم ”كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر والخلق ما بتشربش“؟

و لا أحد يريد أن يسمع! لا أحد يريد أن يرى!

أتساءل: إلى متى؟!

إلى متى؟!


(المقال القادم: "سامية!")

٠٦ فبراير ٢٠٠٧

زنجي والسهروردي

 ”صاحب الحق عينه قوية“
مثل شعبي


أطرب أيضا لما يكتبه «زنجي» و«السهروردي» بعاميةِ مصرية شجية تشدّك بنضارة مجازاتها وثراء إيقاعاتها (كان شاعرنا العظيم «فؤاد حداد» يصف شعره بأنه ”رسم صيني وطبل زنجي“، وها نحن أمام طبل زنجي والسهروردي!). تستقر في ذاكرتي عبارات لهما مثل:
 ”بيفرحني الجمال، بيفرحني أشوفه واسمعه واحسه والمسه، بيفرحني أحضنه والعب في شعره.
(«زنجي»: بفرح)

ولما تِبْقي لابسه السويت شيرت الزرقا والبنطلون القطن الازرق وخطين حَمر على دراعك، وشك مرتاح وابيض والنمش هنا وهناك عامل زي النجوم في صفحة السما، كنتي تقتليني من غير تفاهم.

بتمشّى على شط بين جبال النثر على شمالي وبحورالشعر على يميني.

عربيات البلدية جات النهارده لقص الأغصان الطويلة من على الأشجار. لكن المقص لابيفرق بين غصن طويل وغصن صغير.. شايف دلوقت غصن شبهى يحاول الاختباء ورا أطول الأغصان.
زنجي والسهروردي
ليس لدى «زنجى» و«السهروردي» ما يخفيانه. هما – بأريحية وطيب خاطر- كِتابٌ مفتوح! من مدونتهما، «افهم»، تعرف الأحياء التي سكنا فيها والمدارس التي التحقا بها في الطفولة والصبا.. تعرف أسماء كثير من أصدقاء الطفولة.. الكتب التي كانا يقرآنها.. الجد والجدة (للأم).. بعض الأقارب.. عمل الأم (الأم التي تقرأ لطفلها رباعيات «صلاح جاهين»، وتصحبه إلى دروس البيانو، وتغني معه ”زهرة المدائن“).. عمل الخالة (الفنانة التشكيلية) ومعاركها ضد الفساد الإداري.. بعض صديقات الأم (السيدة «منى الشبراوي» التي قرأ «زنجي» على يديها ”القفص الزجاجي“ و”الحب في زمن الكوليرا“، والسيدة المناضلة «ندى القصاص») .. وحتى بعض وقائع الحياة الأسرية والعاطفية التي قد يتحرج البعض من إعلانها على الملأ. هذا في اعتقادي دليل صحة نفسية. ألاّ يكون لديك ما تخاف من إعلانه.. هذا جميل جداً. يشدني إليهما أيضاً الحب الذي يتكلمان به عن أصدقائهما من المدونين.. «ياسر ثابت» و«ياسر نعيم» و«جيفارا» و«شريف نجيب» و«زرياب» و«سامية» و«عمرو». مع «زنجي» و«السهروردي» أحس أنني أمام شهامة ووفاء ’ولاد البلد المأصّلين‘، رغم أنهما من قراء «ماركيز» و«كويلو» و«كونديرا» و«جونتر جراس»، ويتابعان آخر الأغاني والأفلام الأجنبية! ليس في «زنجي» و«السهروردي» ذرة واحدة من الادعاء.

يبهرني فيهما أيضا اتساع الأفق، وتعدد الاهتمامات، والدأب على التحصيل: أقرأ بإعجاب النقد السينمائي الذي يكتبه «زنجي» في «كيس فيشار» ( لا أضيف جديداً إذا قلت إنها من أجمل المدونات العربية المتخصصة سواء من حيث المادة التي تقدمها أو التصميم الجرافيكي)، وأتابع على مر الأيام المختارات الشعرية التي يقدمها لنا «السهروردي» في مدونته الجميلة «سيف خشب»، وأعرف مما يكتبانه أنهما يتابعان كل جديد في الموسيقى والكتابة الأدبية.

أجمل ما في هذين الشابين الموهوبين، هو أن هذا الانفتاح على ثقافات الآخرين– بكل ما فيها من ثراء وقدرة على الإبهار وبكل ’مدفعيتها الثقيلة‘- لم يقتلعهما من جذورهما ولم يحولهما إلى أنصاف ’خواجات‘ يتأففون من أبناء شعبهم ’المتخلفين‘، أو إلى مهزومين في عقولهم يجترون مشاعر الإحباط والعجز. ما أجمل «السهروردي» وهو يقول: ”بكل عناد طفولي أقدر أقول: بكره أجمل من النهارده!“

ما أجمله وهو يستصرخ النور الذي يراه في نهاية النفق المظلم:
تبّاع على ميكروباس خط إمبابه - جيزة.. بياع جرانين في طلعت حرب..
صبي في محل كشري في العمرانية.. الأسماء كتير بس الشخص هوه هوه واحد..
نفس الصورة البشوشة والضحكة المنوّرة والقلب الأخضر والإيدين اللي حتضرب الحديد.
.....
تانى مره صرخت... ’مدد ياللى بتقرب... مداااااااااااااااااااااااااااااد‘
أبتسم لحماستهما وصخبهما حين يردان على خصومهما في الرأي، وأضحك لتعليقاتهما حين يعربدان، بخفةِ ظلٍ آسرة، على صفحات مدونة «أبو الليل» حيث البساط أحمدي ولا حواجز تعوق الانطلاق. سلاحهما جاهز دائما، وهما يتركان للخصم حق اختيار نوع السلاح: إن لزم حدود الأدب فهما مؤدبان مثله وزيادة، وإن لم يلزمها فليتحمل النتائج وهو الجاني على روحه! أجفل أحيانا لحدة النبرة. لكنني لا أخفي عليكم حبي لهذه الحماسة. أحب جدا أن يحتشد صاحب الرأي بكل كيانه للدفاع عما يعتقد انه الحق، ولا أطيق ’رخامة‘ الكتابات ’العديمة المِرِوَة‘ بالتعبير الشعبي، الفاقدة للون والطعم والرائحة. حين توقن بأن ما تدافع عنه هو الحق لا تُمسك بالعصا من المنتصف، قُل ما عندك بغير شطط ورزقك على الله. لكنني مع ذلك اعتب على «زنجي» لغته الحادة وهو يرد على «بت مصرية». كيف غاب عنك يا «زنجي» أن رجلاً مهذبا مرهف الحس مثلك كان لابد له أن يراعي انه في حضرة آنسة قد يمنعها الحياء من استخدام مثل هذه اللغة الحادة. لا أخفي عليك أيضاً، لكي أكون منصفا لك، أن تعليقاتكما– أنت و«السهروردي»- على ما كتبته الآنسة المصرية أقنعتني باتساع حصيلتكما المعرفية وبأنكما تصدران في موقفكما عن اقتناع وليس عن اندفاع أجوف. لا أنكر أنني فرحت بكما، ولكن اللغة الحادة أوشكت، للأسف، أن تغطي على قوة الحجة. القضية التي أثارتها زميلتنا «بت مصرية»– قضية الانتماء العربي لمصر- قضية شائكة ومعقدة، بحكم ظروفنا المصرية والعربية الراهنة وبحكم ما تعرضت له هذه القضية من هجوم وتشويه على مدى عقود طويلة، وكانت تحتاج، في رأيي، إلى نبرةِ أهدأ. علينا أن نقدّر ما لدى الآخرين من مخاوف وأن نلتمس لهم العذر حين يختلفون معنا، فما بالك و«بت مصرية» تتطلع، مثلك ومثلي، للنهوض بمصر- وطنها الذي تحبه. وهل نهضت مصر مرة، على امتداد تاريخها الطويل، دون أن تسارع إلى التلاحم مع محيطها الجغرافي والبشري؟ فلتعمل زميلتنا «بت مصرية»، ونحن معها، من أجل نهضة مصر وستجد مصر نفسها، بمجرد النهوض، في حضن محيطها العربي مرة أخرى! أكثر ما آلمني في تلك المناقشة الصاخبة هو نبرة التعصب الطائفي التي تبدت فيما كتبه بعض المعلقين سواء في مدونتك أو في مدونة «بت مصرية». لم يكلف هؤلاء أنفسهم مشقة الرجوع إلى مدونتك للتعرف على حقيقة موقفك. هاجموك دون أن يعرفوا أنك قلت في إحدى تدويناتك:
يمكن أن ازعم بضمير مستريح ان القصص الانجيلية أثرت بشكل فعال في تكويني. لا زلت أحب صور القديسين في الأيقونات. لازلت أتأثر لقصة صلب المسيح. لازلت اعتبره مخلص العالم من الشرور. لازلت أحبه وأحب صوره. لازلت اعشق العدرا التي أرى فيها أمي بشكل من الأشكال. مازلت لا أفوّت الفرص لزيارة الكنائس بعيدا عن المزيدات وكلام الوحدة الوطنية. لكني والأمانة لله لم أشعر يوما باختلاف بيني وبين أحد ولم يشعرني أحد بالاختلاف بيني وبينه..
قلتَ هذا الكلام بشجاعة رغم ما قد يجلبه عليك من سخط وإساءة تفسير من بعض المتعصبين على الجانب الآخر. ومع هذا هاجموك وقلبوا الموضوع إلى اشتباك طائفي! أعاني أنا أيضا من أمثال هؤلاء المعلقين. يقرأ الواحد منهم جملة أو حتى نصف جملة من كلامك ويشم، أو يتخيل انه شم، رائحة اتجاهٍ ما فيبدأ في الهجوم على ما يتصور انه أفكارك...

ما علينا! أخذني الكلام... هل أقول ل«زنجي» أيضا إنني ’مت على روحي من الضحك‘ وأنا أتعلم منه مثلاً شعبياً جديداً علىّ: ”وزغرطي ياللي منتيش غرمانه!“. أضفته، بعد إذنك، إلى حصيلتي من الأمثال الشعبية.

مع «زنجى» و«السهروردي»، وأمثالهما من شبابنا الموهوب، نشعر بأن الشتاء الطويل الذي أطبق على مصر لم يقض على كل شيء، كما قد يتوهم البعض منا في لحظات الإحباط والتحسر؛ نشعر بأننا نملك بالفعل ما نستطيع أن نبني عليه ونتسلح به ونحن نتجه صوب المستقبل من جديد.


(المقال القادم: "مولودة للحواديت وشم الورد!")

٠٣ فبراير ٢٠٠٧

إيمان ثابت.. سلام مربع للروائية الصاعدة!


كان فيه قمر كأنه فرخ الحمام
على صغره دق شعاع شق الغمام
أنا كنت حاضر قلت له ينصرك
إشحال لما حتبقى بدر التمام
عجبي !!

صلاح جاهين - الرباعيات


مصر في حارة - رواية - إيمان ثابت
يخامرني شعورٌ جارف بالاطمئنان إلى المستقبل حين أطالع ما تكتبه أصغر مدوِنة عربية، الروائية الصاعدة «إيمان ثابت» التي”تحلم بأن تكون أديبة وكاتبة تخدم مجتمعها“، والتي تبهرك براعتها في الوصف ومهارتها في اختيار التفاصيل الدالة وحسها المرهف بالألوان في الطبيعة.

تقول روائيتنا الصاعدة في وصف «مهجة» إحدى شخصيات روايتها:
كم لمح أبناء الحارة رزانتها وهدوءها ورقة ملامحها المصرية الشامية.. حيث اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من ابيها عبد الودود أفندي، في حين وهبتها والدتها عديلة عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف وشعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام.
هل انطبعت في مخيلتكم، مثلي، ملامح «مهجة»؟ هل استوت أمامكم كائنا حيا يعيش ويتنفس: سمراء، ملفوفة القد، كحيلة العينين، رزينة وهادئة وساذجة النبرة؟ هل استحضرتم من الذاكرة على الفور عيون أهل الشام الواسعة، الطويلة الأهداب؟ هل خطر لكم عندئذ، مثلي، قول الشاعر الشعبي: ”ورمش عين الحبيب يفرش على فدان“؟ هل بهرتكم، مثلي، فطنة السليقة وثراء الحصيلة اللغوية حين قرأتم ”اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من أبيها.... في حين وهبتها والدتها عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف....“، هل لاحظتم البراعة في التفرقة بين الفعل اللازم ”اكتسب“ (”لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت“) والفعل المتعدي ”وهب“ الذي ينم عن الكرم والعطاء (”سبحان الوهاب“)؟ وهل شدكم مثلي هذا التشبيه الجميل: ”شعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام“. أسعد الله أحلامك وأيامك يا «إيمان»!

في وصفها لشخصية أخرى تكتب «إيمان»:
يجلس أبوه العجوز على كرسي بجواره، حيث لا يكف عن مطالعة الجرائد ومتابعة الأحداث المنشورة كأنه يبحث عن خبرٍ ما ينتظره.. لكن أذنيه دائما مع الابن بصوته الرخيم كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة.. فتسمع الأب يقول بإعجاب ’الله‘ كلما أطربه صوت ابنه الشجي.
ألا تبهركم هذه اللقطات السريعة- لا كلمة واحدة زائدة!- التي تصّور بها «إيمان» كل العطاء المجاني لعاطفة الأبوة، جمال هذه العاطفة ”حتى في الشقا والفقر“ كما يقول «فؤاد حداد»؟: صوت الابن في مسمع الأب ”كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة“! ألا تحسون بهذا التشبيه وكأنه يأتي من أعماق هذا الرجل الفقير وليس من الراوي، بأنه ’لابس الشخصية‘ تماما كما يقال في التعبير الشعبي؟

تصعد «إيمان» الآن درجَ العمر ما بين الطفولة والصبا. لا عجب أن تجد في روايتها الجميلة لوحاتٍ تُذكّركَ بمهرجان الألوان والكائنات في رسوم الأطفال التي نراها نحن الكبار فنتحسر على "ما صنعته الأيام في نفوسنا". اقرءوا معي هذا الوصف في مستهل الرواية:
تشرق الشمس بنور وديع وسط السماء الزرقاء الصافية... يتسرب إلى الآذان تغريد البلابل والعصافير في أنحاء الحارة الصغيرة.. تفوح الرائحة الزهرية العطرة التي تولد من رحم الربيع الدافئ.. تغفو على الأرض ظلال الأشجار المورقة.

أرصفة الحارة الضيقة النحيفة تباع عليها الأحذية الرخيصة الملونة كما تستقر عليها محال الجزار والنجار والبقال والتاجر... يلهو الأطفال تحت أشجار التوت والتفاح...يركضون ويتنقلون عبر فروعها البنية.. البسمة تشرق كالشمس على وجوههم ووجوههن، المرح يملأ قلوبهم والبراءة عنوان قلوبهن.
هل رأيتم مهرجان الألوان والكائنات، كيف يكون الوصف متعة للعيون: سماء وزرقة وشمس ونور ”وديع“ وربيع وبلابل وعصافير وأريج زهور وأطفال وأشجار توت وتفاح لها ظلال ”تغفو على الأرض“ و أغصان بنية وأحذية ملونة و... أرصفة ”نحيفة“! هل شعرتم، مثلي، أيضا بحساسيتها المرهفة بموسيقى اللغة، ب’البنية الصوتية‘ للنص كما أحب أن أسميها، وأهميتها في إنتاج الدلالة يستوي في ذلك أن يكون النص شعراً أو نثراً؟

هل لي بعد ذلك أن أتجاسر فأطلب من «إيمان» أن تعطي اهتماما وعناية أكبر للحوار فيما ستكتبه- بإذن الله- في مقبل الأيام. كتابة الحوار بالفصحى تحتاج إلى جهد كبير ومران طويل (مازلت أضحك كلما ذكرت السيدة «سنية عفيفى»، في رواية «زقاق المدق»،إحدى الروايات الأولى لـ«نجيب محفوظ»، وهي تنظر لوجهها في المرآة وتقول: ”جميلٌ وأيم الحقِ جميل“!). إذا كان لي أن أنصحكِ فإنني أهمس في أذنك: ما دمتِ تؤثرين الفصحى لغةً للحوار، وهذا حقك، حاولي أن تتخيلي الحوار أولاً بالعامية ثم ترجميه بعد ذلك إلى أقرب التراكيب الفصحى إلى العامية. الرواية نوع أدبي يتميز بتعدد اللغات واللهجات، فاختاري لكل شخصية مستوى التعبير اللغوي الذي يناسبها ويميزها عن الشخصيات الأخرى. لا شك عندي أن هذا الهم يشغلك، ولا شك أيضاً أن الأمر يحتاج إلى مران طويل (قارني مثلا لغةَ الحوار عند «نجيب محفوظ» في رواياته الأولى بلغة الحوار في أعماله كلما تقدمت به الخبرة وطال المران). هل تجاوزت حدودي، وهل اشقُّ عليكِ بهذه النصيحة؟ هذا من باب العشم ولأنني واثق ’إنك قدها وقدود كمان‘.

اختارت «إيمان»- كما عرفت من مدونة أبيها «ياسر ثابت»- «نجيب محفوظ» ليكون قدوتها في الكتابة الروائية. اختارت- و’يا زين ما اختارت‘- أن تصعد هذا المرتقى الصعب وأن تنهل من نبع الأستاذ الأكبر للرواية العربية. «نجيب محفوظ» لم يتجاوزه أحد حتى الآن. لم يُخلص أحدٌ لعمله كما أخلص، ولم يظهر حتى الآن من له موهبة تساوق ولو من بعيد موهبته السامقة الوارفة الظلال. «نجيب محفوظ» هو، للروائيين الشباب، ”البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ“. لا تكاد تجد تقنية واحدة من تقنيات السرد الروائي لم يستخدمها «نجيب محفوظ»!

إيمان ثابت
إيمان ثابت
اختار لها والدها اسم ”إيمان“ لأنه ”اسم يحمل قدرا من الثقة والوداعة والسكينة“.

اسمها ”إيمان ثابت“ يتكون في سمعي، شأن اسم ”نجيب محفوظ“، من صفةٍ وموصوف.

اسم مدونتها: ”وجوه

«إيمان»- الروائية التي أدعوكم إلى قراءة عملها الأول- في الثانية عشرة من العمر!

ســـلام مربع للروائيـــة الصـــاعدة !



(المقال القادم: "زنجي والسهروردي!")

٣٠ يناير ٢٠٠٧

المدونات عود على بدء: الطيور على أشكالها تقع!


No! I am not Prince Hamlet, nor was meant to be;
Am an attendant lord, one that will do
To swell a progress, start a scene or two,
Advise the prince; no doubt, an easy tool,
Deferential, glad to be of use,
Politic, cautious, and meticulous;
Full of high sentence, but a bit obtuse;
At times, indeed, almost ridiculous—
Almost, at times, the Fool.

T.S. Eliot, The Love Song of J. Alfred Prufrock.

أن أتجدد مع الشباب والمبدعين الجدد..هذا ما يجعل متابعة المدونات، بالنسبة لي، تجربة بالغة التشويق والمتعة. لعلكم تدركون إنني من أكبر المدونين سناً، هذا واضح من لغتي ’القديمة‘ التي لا تنتمي إلى عصر ’ما بعد الحداثة‘ - لغة ’الستينيات‘ كما يقول البعض متصوراً أنه يشتمني! لا أدري إذا ما كانت لغة ’ما بعد الحداثة‘ تقتضي الجهل بقواعد الإملاء، وبقواعد النحو، لمن يختارون الكتابة بالفصحى، والعجز عن كتابة كلمة أجنبية واحدة سواء بالحروف العربية أو اللاتينية، باعتبار هذه الأمور من ’الكلام الكبير‘ (grand narratives) الذي انقضى عهده وانتهى عمره الافتراضي؟ في هذه الحالة سأقول لكم: الله الغني عن الحداثة وما بعد الحداثة. وآه يا زمن!

الذين مارسوا منكم تجربة الأمومة أو الأبوة، أو حتى تربية النباتات والعناية بها، سيفهمون ما أقصد. المتعة التي أتحدُث عنها هنا أشبه ما تكون بشعورك حين تستيقظ في الصباح فتجد نباتك وقد اشتد عوده ونمت أوراقه وأعطاك زهرة جميلة. لا.. ليست هذه نزعة ’بطريركية‘ متسلطة! فأنا أقف بتواضع بين أيدي اصغر المدونين سنا وأحاول أن أتعلم منهم. وهناك، والحمد لله، كثيرون يفهمونني ويقدّرون ما أكتب. "هذا يكفيني. إنه التاج الذي اشتهي" على رأي عمنا «بابلو نيرودا».

ولما "كانت الطيور على أشكالها تقع"- وهذه حقيقة تتجلى بأوضح صورة في عالم التدوين- فإن زياراتي للمدونات تقتصر في الغالب على أشباهي، أو من أتصور أنهم أشباهي، من المدونين. لا أصدر في هذا الموقف عن تعصب للرأي، ولا عن انحياز أعمى لاتجاهٍ ما، سواء في السياسة أو في الإبداع الأدبي. فأشباهي هؤلاء ليسوا بالضرورة ممن اتفق معهم في الرأي، وكثير منهم، كما سترون، لا يكتب في السياسة أو يعطيها اهتماما هامشيا بين اهتمامات أخرى. القاسم المشترك الوحيد بيني وبينهم هو احترام الذات واحترام الآخر. فأنا، مثل «يحيى حقي»، "أحب الأصابع السرحة في الراحة المنبسطة، مخلوقة للبذل، للعزف، للتربيت بحنان".

لا أطلب من المدون شيئا أكثر من احترام قارئ مدونته، احترام ’البداهة الفطرية‘ (التعبير لـ«محيي الدين بن عربي»، وهي في نظري أفضل ترجمة لـcommon sense)، والحرص على صورته أمام نفسه أولاً ثم أمام الآخر. لا يضايقني أن تختلف رؤيته مع رؤيتي. أعرف أن قضايانا بالغة التعقيد وأنها تقتضي النظر إليها من زوايا متعددة وتفتح الباب أمام اجتهادات شتى. أوقن أن لا أحد فينا- في حدود علمي- يملك رؤية شاملة ومكتملة. أريد أن استكمل ما ينقصني بما عند الآخرين، بل أتخلى عما اكتشف خطأه حين اكتشف الصواب عند آخرين. قل ما شئت ولكن لا تعاملني وكأنني "مختوم على قفاي"!

حين يقول لك أحد المدونين، مثلاً، باستنكار شديد: "اسرائيل توسعية؟ وده بأه تخريفة جديدة؟ دول هما بيسيبوا الأراضي واحدة ورا التانية عشان مش عارفين يديروها. يتوسعوا فين؟". بالله عليك، هل تشعر بأن قائل هذا الكلام يعاملك كبشر ميّزه الله بنعمة العقل؟ أم تشعر أنه يستخف بعقلك وبعقل السواد الأعظم من البشر في كل أركان الأرض؟ طيب يا أخي الهمام، نقول "المتكلم عاقل والمستمع مجنون": ماذا تفعل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وفي الجولان منذ أربعين عاما؟ هل تمارس فيها ’مهمة حضارية‘ وتغدق من عطفها وحنانها على سكانها المساكين لتنهض بهم وتحميهم من شر أنفسهم؟! طيب يا سيدي الناس دي بتقول لإسرائيل من زمان: "متشكرين وكفاية لحد كده!" مبترحلش عنهم ليه؟ طيب.. والمستوطنات، والجدار العازل، وضم القدس الشرقية والجولان رسمياً إلى إسرائيل، برضه مش توسع؟! أفهم أن يصدر هذا الكلام عن شخص يؤمن بحق ’الدولة العبرية‘ في الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات، معتبراً إياها أرض أو ’إرث‘ Eretz إسرائيل كما يسمونها، أفهم أن يصدر عن أحد أتباع الحاخام «كاهانا» أو أحد أعضاء «إسرائيل بيتنا» أو «الليكود» أو «كاديما»، أمّا أن يصدر عن مواطن مصري يريد أن يقنعني برأيه فاسمح لي يا أخي أن أقول لك: "أنت تستخف بعقلي!" يؤلمني جدا أن يصدر هذا الكلام عن شريك لي في هذا الوطن في وقت يقول فيه رجل ينتمي إلى النخبة الأمريكية الحاكمة، هو الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمى كارتر»، إن إسرائيل تنتهج سياسة الفصل العنصري وتسلب الفلسطينيين أرضهم. ويؤكد، في كتابه الأخير "فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري" (Palestine Peace Not Apartheid)، إن الجدار العازل يسلب الفلسطينيين أرضهم، وإن "من الواضح أن الفلسطينيين سوف يُتركون بلا أرض يقيمون عليها دولة قابلة للحياة." ويضيف: "إن الولايات المتحدة تبدد سمعتها وتعزز الإرهاب العالمي المعادي لها حين تغض الطرف أو تشجع، بطريقة غير رسمية، مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية واستعمارها".

هل تعذرونني حين أقول إنني زرت هذه المدونة مرّة.. "وكانت هيّا المرّة". وكفى الله المؤمنين شر القتال.

حين ينشر مدون آخر صورة أحد المنشورات التي كانت تلقيها الطائرات الإسرائيلية أثناء الحرب الأخيرة في لبنان، ويعلّق عليها فيقول إن "إسرائيل بكل عنصريتها وبغضها [خد بالك من الكلام كويس!] كانت تقوم بإسقاط عشرات الآلاف من التحذيرات قبل كل ضربة جوية... وبالتالي كان من الممكن إنقاذ عشرات الأطفال من موت محقق". ثم يتساءل ماذا حدث؟ محمّلاً المسئولية، فيما يبدو، للبنانيين أنفسهم. ألم ير هذا المدون، الحنون القلب الرقيق المشاعر، الصور التي كانت تملأ الفضائيات والصحف: صور الطرق والجسور المدمرة على امتداد رقعة لبنان وبخاصة في الجنوب اللبناني؟ ألم يكلف نفسه مشقة السؤال: ما جدوى هذه التحذيرات في وضع كهذا إلا أن تكون ذراً للرماد في العيون؟ كأني بهذا المدون لم ير، أو لم يرد أن يرى، صور الأطفال الذين طاردتهم وقتلتهم الطائرات الإسرائيلية وهم يحاولون الفرار مع أهلهم من قرية «مروحين». لم ير صور الأطفال القتلى في «مرجعيون» و«قانا» والضاحية الجنوبية. لم يتجشم مشقة السؤال المنطقي البسيط: هل يترك إنسانٌ نفسه للموت إذا كان أحد قد حذّره بالفعل من قبل، وكانت لديه فرصة حقيقية، لا وهمية، للنجاة؟! صاحب هذه المدونة يتصور نفسه أكثر ذكاءً فهو يتحدث عن إسرائيل "بكل عنصريتها وبغضها"، ولكن اسمعوا الكلام للآخر: "مع كل المعونات والتبرعات للبنان، استغل الناس هناك وفي سوريا والأردن الفرصة، وبلغ سعر إجلاء المواطن الواحد من اللبنانيين 1000 دولار بحسب مصادر عديدة مما أدى إلى بقاء غير القادرين...فتساءلت من أكثر قسوة علينا.. العدو الصهيوني؟ أم العرب أنفسهم؟"

واضح أن النتيجة التي يريد لنا هذا المدون أن نقتنع بها هي أن العرب أكثر قسوة على أنفسهم من إسرائيل "بكل عنصريتها وبغضها"! يتحدث عن "الناس" (بألف لام التعريف) في لبنان وفي سوريا وفي الأردن و ليس عن آحاد أو عشرات أو حتى مئات من منتهزي الفرص الذين لا يخلو منهم شعب من شعوب العالم، ويعمم حكمه ليشمل كل العرب (بألف لام التعريف أيضا!). لم يسمع هذا المدون، أو لم يرد أن يسمع، عن حملات التبرعات الشعبية للبنانيين في كثير من البلدان العربية. ولم يقرأ، أو لم يرد أن يقرأ، ما كتبه مراسلون صحفيون، ومنهم أجانب كثيرون، عن آلاف الأسر اللبنانية، المسيحية والمسلمة، التي استقبلت اللاجئين في بيوتها ووفرت لهم الطعام والملبس والمأوى. يا أخي انتقد حزب الله كما تشاء، انتقد المقاومة الفلسطينية كما يحلو لك، دافع عن التطبيع مع إسرائيل إذا كان هذا رأيك، ولكن احترم عقولنا ولا تشوه الوقائع! هل تعذرونني إذا قلت إنني كففت عن متابعة هذا المدون مفضلاً أن أتابع مثل هذه الأفكار في مصادرها الأصلية!.

مدون ثالث يتحفنا في مدونته بصور لبعض المخترعات الأوروبية والأمريكية ومن بينها، اسم الله على مقامكم، صورة مرحاض (قاعدة تواليت)، ويذكر لنا اسم العبقري الأوروبي الذي اخترعه وتاريخ الاختراع، متباهياً تباهي "القرعة بشعر بنت أختها"، بأن أوروبا هي التي اخترعته ولم يخترعه العرب أو المسلمون. لا يعرف هذا المدون- عميق الشعور بالدونية- أن العرب، كما يؤكد المستشرقون والمؤرخون الأوروبيون، هم الذين أدخلوا الورق والصابون إلى أوروبا. لا يعرف أن العالم الإسلامي عرف الحمامات العامة والخاصة ووسائل للنظافة والتزين قبل النهضة الأوربية بقرون طويلة. باختصار يريد هذا المدون أن يقول لنا إن العرب والمسلمين ’أوساخ‘ بالطبع أو بحكم ’الثقافة‘ و ربما بحكم الجينات أيضا.

هل تعذرونني إذا قلت إنني أقرف- بلا مبالغة- من الاقتراب من هذه المدونة. لا أصدر في هذا الموقف عن عداء للحضارة الغربية. لم أبلغ من الحمق ما يجعلني أعمى عن منجزاتها العظيمة. لكنني أعرف أيضاً ما قدمته الحضارات الأخرى. ما أكرهه هو هذا الشعور الذليل بالدونية. هل تستطيع أن تتصور العالم بدون الزراعة، واستئناس الحيوان، والكتابة، والورق، والعجلة، ونول (الغزل)، والنسيج، والأرقام وقواعد الحساب، والصابون(!)، والزجاج، وصهر المعادن؟ هل تستطيع أن تتصور الرياضيات بدون فكرة الصفر أو بدون الجبر واللوغاريتمات وحساب المثلثات؟ هل تستطيع حتى أن تحدد اللحظة التي أنت فيها بدون أن تعرف تقسيم الزمن إلى دقائق وساعات وأيام وأسابيع وشهور؟! أليست هذه كلها- وآلاف غيرها بغير عدد- إسهامات حضارات أخرى؟ لا يا أخي.. لا أقول هذا تباهياً بالماضي أو بكاءً على الأطلال! هذه حقائق تقوم عليها حياة البشرية اليوم وستظل تقوم عليها ما بقي الإنسان على الأرض! خرافة العنصرية هذه انتهت إلى الأبد بعد أن كشفت اختبارات الحمض النووي أن البشر جميعا ينتمون إلى أصل واحد! وهاهي شعوب أخرى، لا تنتمي إلى ’الغرب‘، تنهض من جديد.. الصين والهند يصنعان الآن أقمارهما الصناعية ويقدّمان في كل يوم اختراعات واكتشافات علمية جديدة. كثير من مفكري الغرب أنفسهم ينتقدون الآن فكرة ’التفرد الأوروبي‘ ويتخلون عن المنظور القائم على"المركزية الأوروبية"، ويعيدون كتابة التاريخ من جديد[1]. فهل تدعونا أنت إلى الانتحار.. أم أنها عبادة القوة والتلذذ المازوكي بالإحباط والعجز؟ هل هو سوء القصد أم هو الجهل؟!

أحترم كثيرا رجلاً كالدكتور «حسين فوزي»، عالم البيولوجيا البحرية والمفكر الموسوعي المصري الراحل، وهو القائل: "درجت على حب حضارة الغرب، والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي." أحترمه لأن هذا الإعجاب لم يقتلعه من جذوره فهو القائل أيضا: "أومن بوطني، وشعب بلادي، المؤلف من ملايين المحرومين من الصحة، ومن التعليم، من الرفاهية الجثمانية والعقلية." وهو يصف كتابه "سندباد مصري" فيقول: "كتابي صور من ملحمة هذا الشعب الذي أفخر بأنني واحد من آحاده." ثم يعود ليقول في ختام هذا الكتاب: ".. بلادي خرجت من محناتها ورزاياها محتفظة بشخصيتها وطبائعها السمحاء، مقبلة دائما على صناعتها الواحدة، صناعة الحضارة، برغم كل شيء، وتحت حكم كل إنسان، وضد كل إنسان." أحب «حسين فوزي» وأحترمه لأنه، وهو العاشق المتيم بالموسيقى الكلاسيكية الأوربية، الواسع العلم بها (انظر كتابه "الموسيقى السيمفونية")، كان يشيد بموسيقى «سيد درويش» ويشد الرحال إلى المغرب ليستمتع بالموشحات الأندلسية تؤديها الجوقات التقليدية.

يحيى حقييحيى حقي
أحترم كثيرا رجلاً مثل «يحيى حقي»: يحدثنا عن بدء اتصاله المباشر بالحضارة الأوروبية، فيقول: "... وأخذت موقف التلميذ في الموسيقى والتصوير والمعارض والمتاحف والمسارح..". لكنه لا يلبث أن يستدرك فيضيف: "ورغم ذلك فقد كنت أشعر دائما أن في داخلي شيئا صلباً لا يذوب بسهولة في تيار حضارة الغرب.... فقد وصلتها [يقصد أوروبا] وعندي قدر أكبر من اللازم من الشمس.. عندي حضارة.. إن لم تفق.. فهي تماثل حضارتها، وعندي دين هو نظام متكامل فيه الغَناء". ثم يعود ليضيف: "وطوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم".

أحب كثيراً «فؤاد حداد»، الذي كان يحفظ مئات- وربما آلاف!- الأبيات من الشعر الفرنسي.. لـ«فكتور هيجو» و«أراجون» ولكثير من الشعراء الفرنسيين الآخرين.. الذي كان منفتحاً على شعر العالم كله.. يقرأ «بابلو نيرودا» بالفرنسية.. ثم يحاول قراءته بالأسبانية، التي لا يعرفها، لكي يحس بالموسيقى في النص الأصلي!
فؤاد حدادفؤاد حداد
يترجم قصائد لشعراء فيتناميين ويقرأ «ماياكوفسكي» ويتحدث عن أوجه شبه تجمعه به! يترجم مع «صلاح جاهين» قصائد لـ«بريخت».. يحب فن التصوير والكتب الفنية ويعرف «سيزان» و «بيكاسو» و«ليجيه» والانطباعيين الفرنسيين والفنانين المكسيكيين «أورزوكو» و«ريفيرا»..يقرأ «شكسبير» في ترجمات فرنسية ويحلم بترجمته إلى العامية المصرية.. يترجم بالفعل مسرحيات لـ«موليير» و«بيتر فايس» إلى العامية.. ينفتح كل هذا الانفتاح على العالم والثقافات الأخرى..لكنه كان يحفظ أيضا آلافاً من أبيات الشعر العربي والشعر الشعبي المصري واللبناني.. كان وجهه - الطيب العذب الملامح- يكفهر حين يخطئ أحد في النحو أمامه ما دام يستخدم الفصحى، يؤذيه الخطأ لا عن تعصب بطبيعة الحال، فهو ملك الكتابة بالعامية المصرية، ولكن عن غيرةٍ على اللغة والتراث وحبٍ لـ"الأصول". لا غرابة أن يدعو «فؤاد حداد» ربه: "يا رب ولا يتبدّل أبداً حمل الوطن من على أكتافي"، وأن يصف نفسه في أُخريات أيامه فيقول: "فؤاد حداد لابس الوطنية فوق البيجامة". كان ما يملكه شاعرنا العظيم من متاع الدنيا قليلاً. كانت الوطنية هي الشعار والدثار لجسده الذي تسري فيه الوطنية مسرى الدم!

بوسعي أن استطرد فأحدثكم عن نماذج عديدة أخرى سواء من عندنا أو من عند شعوب أخرى.. أحدثكم، مثلا، عن رجال مثل «غاندي» و«طاغور».. أو عن فنانين عظام مثل «أوروزكو» و«ريفيرا» اللذين شقَّا لفن التصوير طريقاً جديداً مستمداً من تقاليد بلادهم- المكسيك- رغم تتلمذهما على الفن الأوروبي ومعرفتهما بكل تقنياته.. أو عن شاعر السينما المخرج الياباني العظيم «أكيرا كيروساوا» الذي اصطنع لنفسه لغة تضرب بجذورها في الوجدان الياباني وفي تقاليد فن الرسم الياباني. لكنني لا أريد أن أثقل عليكم.

أكتفي هنا بأن استشهد بالآية الكريمة: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".؟

*************

تخطر لي حين أدخل إلى مثل هذه المدونات أغنيةٌ قديمة، جميلة وحزينة، للمغني الزنجي الأمريكي، التينور الأشهر «بول روبسون»:
بول روبسونبول روبسون
I met my brother the other day.
I gave him my right hand.

He turned and gave his back,
He scandalized my name.

You call that a brother?
NO! NO!

You call that a brother?
NO! NO!
He scandalized my name!


powered by ODEO

اعذروني إذا قلت إنني أشعر أن هؤلاء يديرون لنا ظهورهم، ولا يحترمون عقولنا. لا أجد للأسف لغة مشتركة بيني وبينهم. أتركهم ضنّاً بتضييع الوقت فيما لا طائل منه، وأتجه صوب من أسعد بصحبتهم وعددهم والحمد لله غير قليل. هؤلاء، في نظري، هم زينة الدنيا وملح الأرض. أحس مع هؤلاء الشباب بأن زمناً أجمل يتخلق الآن في رحم مصر، أمنا العالية الخصوبة، وأتفاءل!


(المقال القادم: "إيمان ثابت.. سلام مربع للروائية الصاعدة!")

ـــــــــــــ
[1]يمكن لمن شاء من قراء الانجليزية الرجوع مثلا إلى كتاب:
Martin Bernal, Black Athena, the Afroasiatic Roots of Classical Civilization
وهو من ثلاثة مجلدات صدر آخرها منذ شهور قليلة (أغسطس 2006). كما يمكن الرجوع أيضاً إلى كتابين أسهل في القراءة، وأقل احتياجا للمعرفة المتخصصة، هما:
Kenneth Pomeranz, The Great Divergenc, Princeton University Press, 2000
وC.A.Bayly, The Birth of the Modern World 1780-1914, Blackwell Publishing, 2004

٢٥ يناير ٢٠٠٧

المدونات: عود على بدء

نشرت منذ عام تقريبا، في 21 فبراير 2006 على وجه التحديد، مقالاً في «الشارع الأدبي» تحت عنوان "أقرأ وأتذكر وأقول"، قلت فيه: "تصادفني في زياراتي للمدونات أصوات تمس أوتاراً في نفسي. أتوقف عندها وأعود إليها كثيراً". ووعدتكم حينذاك بالكتابة عن هذه الأصوات. وبدأت بالفعل بمقال عن مدونة «رنك» تحت عنوان "تبارك الوهاب ونعم الهبة!"

حالت أمور كثيرة بيني وبين مواصلة ما بدأت فيه: ظروفي الصحية أولا، ثم ضيق الوقت (أكل العيش مر!)، وربما أيضا الانشغال بالأحداث الكبيرة التي شهدها العام الماضي وشعوري أحيانا بأنها أفصح من أي كلام.

وهأنذا أعود لأبر بوعدي، ولكن مع تغيير طفيف في خطتي الأصلية. قلت في مقالي السابق: "لا أكتب ابتغاء مرضاة أحد ولا سعيا إلى إغضاب أحد". وأنا عند موقفي. لكنني سأوسع هذه المرة دائرة المدونين الذين أنوي الحديث عنهم لتشمل بعض من أختلف معهم في الرأي. كل الذي أرجوه من هؤلاء هو ألاّ يأخذوا كلامي على محمل التجريح الشخصي. فأنا انتقد أفكاراً ومواقف لا تتجسد في أشخاص معينين بالذات. لا أتهم أحدا، وليس بيني وليس بيني وبين أحد من هؤلاء الذين انتقدهم خصومة شخصية. ولن أتحدث، كما سترون، إلا عن زملاء أتصور أن بيني وبينهم، رغم اختلاف الرأي، لغة مشتركة بل ونقاط اتفاق. هناك آخرون لا تجمعني بهم لغة مشتركة ولا أجد جدوى من الحوار معهم. وهؤلاء لن اشغل نفسي بهم.

قلت أيضا في مقالي السابق: لا تربطني معرفة شخصية بمن أنوي الحديث عنهم. وتقتضيني الأمانة أن أقول إنني سأسمح لنفسي باستثناء واحد هو زميلتنا المدونة «سامية جاهين».

سأبدأ هذه المرة بمقدمة طويلة إلى حدٍ ما، آمل ألاّ تكون ثقيلة الظل، عن مدى أهمية المدونات وحدود دورها في مجتمعنا المصري. هذا رأي شخصي قابل للمناقشة بلا جدال. أرجو ألاّ يُغضب أحدا!

*********
منذ بدأت في متابعة ما يكتبه المدونون المصريون وأنا مشغول بسؤال لم أجد إجابة شافية عليه حتى الآن: إلى أي مدى يمكن القول بأن هؤلاء يعبّرون عن الرأي العام المصري؟

أدرك بطبيعة الحال أن المدونين، في ظروفنا المصرية، لا يمكن اعتبارهم ’عينة ممثلة‘ للمجتمع المصري، أو حتى للشباب المصري، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح في علم الإحصاء أو في الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي. فالتدوين يحتاج إلى قدرٍ من اليُسر المالي والمعيشي، يُسر يوفر لصاحبه أولاً وقت الفراغ اللازم لممارسة التدوين وتعلم وتطوير المهارات المطلوبة، ويتيح له القدرة على شراء الأجهزة وسداد فواتير التليفون أو الاشتراك في شبكات الاتصال السريع بالإنترنت، أو حتى ممارسة التدوين من مقاهي الإنترنت كما تفعل قلة من المدونين. يجب ألا يغيب عنّا هنا أن مصر تحتل مركزا متدنياً جداً بين دول العالم سواء من حيث نسبة مستخدمي الإنترنت بوجه عام، أو نسبة المشتركين منهم في شبكات الاتصال السريع، إلى مجموع السكان. هذا فضلاً عن أن المدونين ومطالعي المدونات لا يشكلون في النهاية سوى نسبة ضئيلة من مستخدمي الإنترنت في مصر.

ولا شك أن هذا يُخرج المدونين من دائرة من يمكن تسميتهم بـ’المواطنين المصريين العاديين‘ (average Egyptians) ويجعل منهم نوعاً من ’النخبة‘. لا أقصد بذلك أنهم يشكلّون مجموعة تنفرد بقدرات ذهنية خاصة أو بنفوذ ثقافي أو سياسي يميزها عن سائر المصريين. ما أقصده بالنخبة هنا هو أنهم يشكلون، بالمقياس الإحصائي، مجموعة أقلية (minority group) تستخدم وسيلة خاصة في التعبير عن نفسها، وهذا هو القاسم الوحيد المشترك بين ما تضمه من أفراد ينتمي معظمهم بالضرورة، بمقاييس الدخول في مصر، إلى شرائح ميسورة نسبياً من الطبقة الوسطى المصرية.

من هنا، فإنني أضع ظاهرة التدوين في مصر في حدودها الحقيقية، فلا هي بـ’الصحافة البديلة‘ كما يحلو للبعض أن يسميها، ولا بالقوة المؤثرة على الرأي العام، ولاهي حتى بالوسيلة التي يمكن الركون إليها في التعرف بيقين على اتجاهات التفكير بين الشباب المصري في جملته. ربما تغير هذا الوضع في مستقبل بعيد، لكنه يظل الأمر الواقع، الآن وفي المستقبل المنظور وحتى إشعار آخر.

لسنا هنا بصدد حكم من أحكام القيمة، بل بصدد حكم من أحكام الواقع. فليس في الانتماء إلى أي طبقة أو شريحة اجتماعية، سواء كانت دنيا أو عليا أو بين بين، ما يعيب أي إنسان، أو ما يجعله بالضرورة أسيراً لرؤية معينة أو لقواعد حديدية للسلوك. والمدونون بالفعل كتلة غير متجانسة تضم أطيافا شتى وتعبر عن اتجاهات متباينة. لكننا نتجاوز الواقع كثيرا إذا توهمنا أننا نستطيع النفاذ إلى الصورة العامة لتفكير الشباب المصري من خلال المدونات. المدونات لا تعطينا سوى جانب ضئيل من الصورة، ولا تكشف في اعتقادي عن الاتجاهات السائدة في تفكير الشباب في جملته لأن أحدا لا يعرف– بأي قدر من اليقين– كيف يفكر السواد الأعظم من الشباب.

أضع هذه الضوابط نصب عيني حين أحاول أن استشرف من خلال المدونات اتجاه الريح في التفكير لدى هذه ’النخبة‘ بالمعنى الذي أوضحته. لا يقلقني كثيراً الصخب في بعض المناقشات ولا الزوابع التي تثور بين الحين والآخر. أعرف أن التدوين لا يعدو أن يكون ركناً صغيراً من مجتمع واسع ومعقد يضم ثمانين مليوناً من البشر، وأدرك أن أكثر الأصوات صخباً في عالم التدوين قد لا تعبر عن اتجاه له وزن في هذا المجتمع الواسع، وأن صداها سيظل محكوما بقوى وعوامل وتفاعلات تقع خارج عالم التدوين، وربما لا تخطر على بال أصحاب هذه الأصوات الصاخبة أنفسهم. أهم ما يشدني إلى المدونات هو الرغبة في التعرف على مبدعين جدد، في استطلاع استخدامهم للغة والتعرف على الاهتمامات التي تشغلهم، في الوقوف على التغير في موازين القيم الاجتماعية والإبداعية من خلال كتاباتهم واجتهاداتهم الإبداعية. أريد أن أتجدد معهم..!

(يتبع)

٢٤ يناير ٢٠٠٧

«عبد الحق» في الشارع الرئيسي!

يعود «عبد الحق»، بعد غيبة طويلة، إلى التدوين في «الشارع» هذه المرة لاستكمال ما بدأه في «الشارع الأدبي» في فبراير من العام الماضي - بسلسلة عن التدوين والمدونين بعنوان "المدونات: عود على بدء".

إنتظروها هنا في الشارع الرئيسي!

لبنان: شعب صنع حريته

" .. هذا السيل البشري الذي اضطلع بدور حاسم في إحباط الهجوم الإسرائيلي كان ثمرة لحركة جماهيرية غير مسبوقة أخذت تتنامى عبر لبنان بينما القنابل تنهمر كالمطر.

وقد مارست هذه الحركة عملها بمعزل عن أي تنظيم حكومي رسمي، وكان زمام المبادرة فيها في أيدي السكان المحليين في أغلب الأحيان:

الطهاة يتولون العمل في مطابخ الفنادق الكبرى لإطعام عشرات الآلاف من المهجرين..

سكان الأحياء في مناطق اللجوء يتنقلون من بيت إلى آخر ليأتوا منها بالوجبات الساخنة والملابس وحليب الأطفال والبطاطين..

أطباء وفرق للرعاية الطبية يفتحون عيادات مؤقتة..

الشقق الخالية تُفتح لإيواء عائلات اللاجئين.

ظل الإسرائيليون طيلة أكثر من شهر يأملون في إجبار حزب الله على الاستسلام عن طريق ترويع سكان الأحياء الشيعية..."

المزيد في الشارع السياسي
.

٢٥ ديسمبر ٢٠٠٦

"هز الهلال" مع إسكندريللا واستمتع ب"شمس الشتا" مع أحمد حداد

'هز الهلال' مع اسكندريللا واستمتع ب'شمس الشتا' مع أحمد حداد"هز الهلال" حفل جديد لفرقة إسكندريللا يوم الأربعاء 27 ديسمبر في ساقية الصاوي الساعة 8.30. تقدم الفرقة أغاني لسيد درويش والشيخ إمام وزياد الرحباني. كما تقدم لأول مرة أغاني من ألحان حازم شاهين وشادي مؤنس كانوا قد شاركوا بها في أمسيات شعرية سابقة مثل امسية "إزرع كل الأرض مقاومة" التي قدمتها فرقة الشارع في لبنان الشهر الماضي.

أما "شمس الشتا" فهي أمسية شعرية غنائية من أشعار أحمد حداد وموسيقى وألحان حازم شاهين وأداء آية حميدة وعمر جاهين وغناء أحمد الحجار ومن إخراج رشدي الشامي. تعرض الأمسية يوم الخميس 28 ديسمبر في ساقية الصاوي(نيو جينيريشن) الساعة 8.30 ويوم الجمعة 29 ديسمبر ساقية الصاوي (الزمالك).

١٤ نوفمبر ٢٠٠٦

كيف هزم حزب الله إسرائيل

تحليل هام لنتائج العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان كتبه الباحثان «ألاستير كروك» و«مارك بيري» ونشرته جريدة «Asia Times» على ثلاثة أجزاء ما بين 12 و14 أكتوبر 2006. ونظراً لأهمية هذا التحليل الذي يصدر، في إعتقادي، عن رؤية تتسم بقدر كبير من الموضوعية - حيث لا يمكن بأي حال اتهام هذين الكاتبين بالانحياز لوجهة نظر حزب الله أو للقضايا العربية بشكل عام - فقد رأيت ترجمته ونشره تباعاً في الشارع السياسي:

الجزء الأول: الانتصار في حرب المخابرات
الجزء الثاني: الانتصار في الحرب البرية
الجزء الثالث: الحرب السياسية

«ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا» الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في الشئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

١٧ أكتوبر ٢٠٠٦

«جوليا بطرس» تغني من وحي رسالة السيد «حسن نصر الله» إلى المقاومين


«جوليا بطرس» تغني، من ألحان «زياد بطرس» وتوزيع «ميشيل فاضل»، كلمات صاغها الشاعر «غسان مطر» من وحي رسالة السيد «حسن نصر الله» إلى المقاومين في الجنوب.

أحبائي..
استمعتُ إلى رسالتِكم، وفيها العِزُ والإيمان
فأنتم مثلما قلتم رجالَ الله في الميدان
ووعدٌ صادقٌ أنتم
وأنتم نَصرنُا الآتي
وأنتم من جبالِ الشمس
عاتيةٌ على العاتي

أحبائي..
بكم يتحررُ الأسرى، بكم تَتَحررُ الأرضُ
بقبضتِكم بغَضْبَتِكم يُصانُ البيتُ والعِرضُ
بناةُ حضارةٍ أنتم، وأنتم نهضةُ القيمِ
وأنتم خالدونَ كما خلودُ الأَرزِِ في القممِ
وأنتم مجدُ أمتنا، وأنتم أنتم القادة
وتاجُ رؤوسِنا أنتم، وأنتم أنتم السادة

أحبائي..
أُقَبِلُ نُبلَ أقدامٍ بها يَتَشَرفُ الشرفُ،
بعزةِ أرضنا انغرسَت، فلا تكْبو وترتجفُ،
بكم سنُغيِّرُ الدنيا، ويسمعُ صوتَنا القدرُ،
بكم نبني الغَدَ الأحلى،
بكم نمضي وننتصرُ