٣٠ يناير ٢٠٠٧

المدونات عود على بدء: الطيور على أشكالها تقع!


No! I am not Prince Hamlet, nor was meant to be;
Am an attendant lord, one that will do
To swell a progress, start a scene or two,
Advise the prince; no doubt, an easy tool,
Deferential, glad to be of use,
Politic, cautious, and meticulous;
Full of high sentence, but a bit obtuse;
At times, indeed, almost ridiculous—
Almost, at times, the Fool.

T.S. Eliot, The Love Song of J. Alfred Prufrock.

أن أتجدد مع الشباب والمبدعين الجدد..هذا ما يجعل متابعة المدونات، بالنسبة لي، تجربة بالغة التشويق والمتعة. لعلكم تدركون إنني من أكبر المدونين سناً، هذا واضح من لغتي ’القديمة‘ التي لا تنتمي إلى عصر ’ما بعد الحداثة‘ - لغة ’الستينيات‘ كما يقول البعض متصوراً أنه يشتمني! لا أدري إذا ما كانت لغة ’ما بعد الحداثة‘ تقتضي الجهل بقواعد الإملاء، وبقواعد النحو، لمن يختارون الكتابة بالفصحى، والعجز عن كتابة كلمة أجنبية واحدة سواء بالحروف العربية أو اللاتينية، باعتبار هذه الأمور من ’الكلام الكبير‘ (grand narratives) الذي انقضى عهده وانتهى عمره الافتراضي؟ في هذه الحالة سأقول لكم: الله الغني عن الحداثة وما بعد الحداثة. وآه يا زمن!

الذين مارسوا منكم تجربة الأمومة أو الأبوة، أو حتى تربية النباتات والعناية بها، سيفهمون ما أقصد. المتعة التي أتحدُث عنها هنا أشبه ما تكون بشعورك حين تستيقظ في الصباح فتجد نباتك وقد اشتد عوده ونمت أوراقه وأعطاك زهرة جميلة. لا.. ليست هذه نزعة ’بطريركية‘ متسلطة! فأنا أقف بتواضع بين أيدي اصغر المدونين سنا وأحاول أن أتعلم منهم. وهناك، والحمد لله، كثيرون يفهمونني ويقدّرون ما أكتب. "هذا يكفيني. إنه التاج الذي اشتهي" على رأي عمنا «بابلو نيرودا».

ولما "كانت الطيور على أشكالها تقع"- وهذه حقيقة تتجلى بأوضح صورة في عالم التدوين- فإن زياراتي للمدونات تقتصر في الغالب على أشباهي، أو من أتصور أنهم أشباهي، من المدونين. لا أصدر في هذا الموقف عن تعصب للرأي، ولا عن انحياز أعمى لاتجاهٍ ما، سواء في السياسة أو في الإبداع الأدبي. فأشباهي هؤلاء ليسوا بالضرورة ممن اتفق معهم في الرأي، وكثير منهم، كما سترون، لا يكتب في السياسة أو يعطيها اهتماما هامشيا بين اهتمامات أخرى. القاسم المشترك الوحيد بيني وبينهم هو احترام الذات واحترام الآخر. فأنا، مثل «يحيى حقي»، "أحب الأصابع السرحة في الراحة المنبسطة، مخلوقة للبذل، للعزف، للتربيت بحنان".

لا أطلب من المدون شيئا أكثر من احترام قارئ مدونته، احترام ’البداهة الفطرية‘ (التعبير لـ«محيي الدين بن عربي»، وهي في نظري أفضل ترجمة لـcommon sense)، والحرص على صورته أمام نفسه أولاً ثم أمام الآخر. لا يضايقني أن تختلف رؤيته مع رؤيتي. أعرف أن قضايانا بالغة التعقيد وأنها تقتضي النظر إليها من زوايا متعددة وتفتح الباب أمام اجتهادات شتى. أوقن أن لا أحد فينا- في حدود علمي- يملك رؤية شاملة ومكتملة. أريد أن استكمل ما ينقصني بما عند الآخرين، بل أتخلى عما اكتشف خطأه حين اكتشف الصواب عند آخرين. قل ما شئت ولكن لا تعاملني وكأنني "مختوم على قفاي"!

حين يقول لك أحد المدونين، مثلاً، باستنكار شديد: "اسرائيل توسعية؟ وده بأه تخريفة جديدة؟ دول هما بيسيبوا الأراضي واحدة ورا التانية عشان مش عارفين يديروها. يتوسعوا فين؟". بالله عليك، هل تشعر بأن قائل هذا الكلام يعاملك كبشر ميّزه الله بنعمة العقل؟ أم تشعر أنه يستخف بعقلك وبعقل السواد الأعظم من البشر في كل أركان الأرض؟ طيب يا أخي الهمام، نقول "المتكلم عاقل والمستمع مجنون": ماذا تفعل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وفي الجولان منذ أربعين عاما؟ هل تمارس فيها ’مهمة حضارية‘ وتغدق من عطفها وحنانها على سكانها المساكين لتنهض بهم وتحميهم من شر أنفسهم؟! طيب يا سيدي الناس دي بتقول لإسرائيل من زمان: "متشكرين وكفاية لحد كده!" مبترحلش عنهم ليه؟ طيب.. والمستوطنات، والجدار العازل، وضم القدس الشرقية والجولان رسمياً إلى إسرائيل، برضه مش توسع؟! أفهم أن يصدر هذا الكلام عن شخص يؤمن بحق ’الدولة العبرية‘ في الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات، معتبراً إياها أرض أو ’إرث‘ Eretz إسرائيل كما يسمونها، أفهم أن يصدر عن أحد أتباع الحاخام «كاهانا» أو أحد أعضاء «إسرائيل بيتنا» أو «الليكود» أو «كاديما»، أمّا أن يصدر عن مواطن مصري يريد أن يقنعني برأيه فاسمح لي يا أخي أن أقول لك: "أنت تستخف بعقلي!" يؤلمني جدا أن يصدر هذا الكلام عن شريك لي في هذا الوطن في وقت يقول فيه رجل ينتمي إلى النخبة الأمريكية الحاكمة، هو الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمى كارتر»، إن إسرائيل تنتهج سياسة الفصل العنصري وتسلب الفلسطينيين أرضهم. ويؤكد، في كتابه الأخير "فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري" (Palestine Peace Not Apartheid)، إن الجدار العازل يسلب الفلسطينيين أرضهم، وإن "من الواضح أن الفلسطينيين سوف يُتركون بلا أرض يقيمون عليها دولة قابلة للحياة." ويضيف: "إن الولايات المتحدة تبدد سمعتها وتعزز الإرهاب العالمي المعادي لها حين تغض الطرف أو تشجع، بطريقة غير رسمية، مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية واستعمارها".

هل تعذرونني حين أقول إنني زرت هذه المدونة مرّة.. "وكانت هيّا المرّة". وكفى الله المؤمنين شر القتال.

حين ينشر مدون آخر صورة أحد المنشورات التي كانت تلقيها الطائرات الإسرائيلية أثناء الحرب الأخيرة في لبنان، ويعلّق عليها فيقول إن "إسرائيل بكل عنصريتها وبغضها [خد بالك من الكلام كويس!] كانت تقوم بإسقاط عشرات الآلاف من التحذيرات قبل كل ضربة جوية... وبالتالي كان من الممكن إنقاذ عشرات الأطفال من موت محقق". ثم يتساءل ماذا حدث؟ محمّلاً المسئولية، فيما يبدو، للبنانيين أنفسهم. ألم ير هذا المدون، الحنون القلب الرقيق المشاعر، الصور التي كانت تملأ الفضائيات والصحف: صور الطرق والجسور المدمرة على امتداد رقعة لبنان وبخاصة في الجنوب اللبناني؟ ألم يكلف نفسه مشقة السؤال: ما جدوى هذه التحذيرات في وضع كهذا إلا أن تكون ذراً للرماد في العيون؟ كأني بهذا المدون لم ير، أو لم يرد أن يرى، صور الأطفال الذين طاردتهم وقتلتهم الطائرات الإسرائيلية وهم يحاولون الفرار مع أهلهم من قرية «مروحين». لم ير صور الأطفال القتلى في «مرجعيون» و«قانا» والضاحية الجنوبية. لم يتجشم مشقة السؤال المنطقي البسيط: هل يترك إنسانٌ نفسه للموت إذا كان أحد قد حذّره بالفعل من قبل، وكانت لديه فرصة حقيقية، لا وهمية، للنجاة؟! صاحب هذه المدونة يتصور نفسه أكثر ذكاءً فهو يتحدث عن إسرائيل "بكل عنصريتها وبغضها"، ولكن اسمعوا الكلام للآخر: "مع كل المعونات والتبرعات للبنان، استغل الناس هناك وفي سوريا والأردن الفرصة، وبلغ سعر إجلاء المواطن الواحد من اللبنانيين 1000 دولار بحسب مصادر عديدة مما أدى إلى بقاء غير القادرين...فتساءلت من أكثر قسوة علينا.. العدو الصهيوني؟ أم العرب أنفسهم؟"

واضح أن النتيجة التي يريد لنا هذا المدون أن نقتنع بها هي أن العرب أكثر قسوة على أنفسهم من إسرائيل "بكل عنصريتها وبغضها"! يتحدث عن "الناس" (بألف لام التعريف) في لبنان وفي سوريا وفي الأردن و ليس عن آحاد أو عشرات أو حتى مئات من منتهزي الفرص الذين لا يخلو منهم شعب من شعوب العالم، ويعمم حكمه ليشمل كل العرب (بألف لام التعريف أيضا!). لم يسمع هذا المدون، أو لم يرد أن يسمع، عن حملات التبرعات الشعبية للبنانيين في كثير من البلدان العربية. ولم يقرأ، أو لم يرد أن يقرأ، ما كتبه مراسلون صحفيون، ومنهم أجانب كثيرون، عن آلاف الأسر اللبنانية، المسيحية والمسلمة، التي استقبلت اللاجئين في بيوتها ووفرت لهم الطعام والملبس والمأوى. يا أخي انتقد حزب الله كما تشاء، انتقد المقاومة الفلسطينية كما يحلو لك، دافع عن التطبيع مع إسرائيل إذا كان هذا رأيك، ولكن احترم عقولنا ولا تشوه الوقائع! هل تعذرونني إذا قلت إنني كففت عن متابعة هذا المدون مفضلاً أن أتابع مثل هذه الأفكار في مصادرها الأصلية!.

مدون ثالث يتحفنا في مدونته بصور لبعض المخترعات الأوروبية والأمريكية ومن بينها، اسم الله على مقامكم، صورة مرحاض (قاعدة تواليت)، ويذكر لنا اسم العبقري الأوروبي الذي اخترعه وتاريخ الاختراع، متباهياً تباهي "القرعة بشعر بنت أختها"، بأن أوروبا هي التي اخترعته ولم يخترعه العرب أو المسلمون. لا يعرف هذا المدون- عميق الشعور بالدونية- أن العرب، كما يؤكد المستشرقون والمؤرخون الأوروبيون، هم الذين أدخلوا الورق والصابون إلى أوروبا. لا يعرف أن العالم الإسلامي عرف الحمامات العامة والخاصة ووسائل للنظافة والتزين قبل النهضة الأوربية بقرون طويلة. باختصار يريد هذا المدون أن يقول لنا إن العرب والمسلمين ’أوساخ‘ بالطبع أو بحكم ’الثقافة‘ و ربما بحكم الجينات أيضا.

هل تعذرونني إذا قلت إنني أقرف- بلا مبالغة- من الاقتراب من هذه المدونة. لا أصدر في هذا الموقف عن عداء للحضارة الغربية. لم أبلغ من الحمق ما يجعلني أعمى عن منجزاتها العظيمة. لكنني أعرف أيضاً ما قدمته الحضارات الأخرى. ما أكرهه هو هذا الشعور الذليل بالدونية. هل تستطيع أن تتصور العالم بدون الزراعة، واستئناس الحيوان، والكتابة، والورق، والعجلة، ونول (الغزل)، والنسيج، والأرقام وقواعد الحساب، والصابون(!)، والزجاج، وصهر المعادن؟ هل تستطيع أن تتصور الرياضيات بدون فكرة الصفر أو بدون الجبر واللوغاريتمات وحساب المثلثات؟ هل تستطيع حتى أن تحدد اللحظة التي أنت فيها بدون أن تعرف تقسيم الزمن إلى دقائق وساعات وأيام وأسابيع وشهور؟! أليست هذه كلها- وآلاف غيرها بغير عدد- إسهامات حضارات أخرى؟ لا يا أخي.. لا أقول هذا تباهياً بالماضي أو بكاءً على الأطلال! هذه حقائق تقوم عليها حياة البشرية اليوم وستظل تقوم عليها ما بقي الإنسان على الأرض! خرافة العنصرية هذه انتهت إلى الأبد بعد أن كشفت اختبارات الحمض النووي أن البشر جميعا ينتمون إلى أصل واحد! وهاهي شعوب أخرى، لا تنتمي إلى ’الغرب‘، تنهض من جديد.. الصين والهند يصنعان الآن أقمارهما الصناعية ويقدّمان في كل يوم اختراعات واكتشافات علمية جديدة. كثير من مفكري الغرب أنفسهم ينتقدون الآن فكرة ’التفرد الأوروبي‘ ويتخلون عن المنظور القائم على"المركزية الأوروبية"، ويعيدون كتابة التاريخ من جديد[1]. فهل تدعونا أنت إلى الانتحار.. أم أنها عبادة القوة والتلذذ المازوكي بالإحباط والعجز؟ هل هو سوء القصد أم هو الجهل؟!

أحترم كثيرا رجلاً كالدكتور «حسين فوزي»، عالم البيولوجيا البحرية والمفكر الموسوعي المصري الراحل، وهو القائل: "درجت على حب حضارة الغرب، والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي." أحترمه لأن هذا الإعجاب لم يقتلعه من جذوره فهو القائل أيضا: "أومن بوطني، وشعب بلادي، المؤلف من ملايين المحرومين من الصحة، ومن التعليم، من الرفاهية الجثمانية والعقلية." وهو يصف كتابه "سندباد مصري" فيقول: "كتابي صور من ملحمة هذا الشعب الذي أفخر بأنني واحد من آحاده." ثم يعود ليقول في ختام هذا الكتاب: ".. بلادي خرجت من محناتها ورزاياها محتفظة بشخصيتها وطبائعها السمحاء، مقبلة دائما على صناعتها الواحدة، صناعة الحضارة، برغم كل شيء، وتحت حكم كل إنسان، وضد كل إنسان." أحب «حسين فوزي» وأحترمه لأنه، وهو العاشق المتيم بالموسيقى الكلاسيكية الأوربية، الواسع العلم بها (انظر كتابه "الموسيقى السيمفونية")، كان يشيد بموسيقى «سيد درويش» ويشد الرحال إلى المغرب ليستمتع بالموشحات الأندلسية تؤديها الجوقات التقليدية.

يحيى حقييحيى حقي
أحترم كثيرا رجلاً مثل «يحيى حقي»: يحدثنا عن بدء اتصاله المباشر بالحضارة الأوروبية، فيقول: "... وأخذت موقف التلميذ في الموسيقى والتصوير والمعارض والمتاحف والمسارح..". لكنه لا يلبث أن يستدرك فيضيف: "ورغم ذلك فقد كنت أشعر دائما أن في داخلي شيئا صلباً لا يذوب بسهولة في تيار حضارة الغرب.... فقد وصلتها [يقصد أوروبا] وعندي قدر أكبر من اللازم من الشمس.. عندي حضارة.. إن لم تفق.. فهي تماثل حضارتها، وعندي دين هو نظام متكامل فيه الغَناء". ثم يعود ليضيف: "وطوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم".

أحب كثيراً «فؤاد حداد»، الذي كان يحفظ مئات- وربما آلاف!- الأبيات من الشعر الفرنسي.. لـ«فكتور هيجو» و«أراجون» ولكثير من الشعراء الفرنسيين الآخرين.. الذي كان منفتحاً على شعر العالم كله.. يقرأ «بابلو نيرودا» بالفرنسية.. ثم يحاول قراءته بالأسبانية، التي لا يعرفها، لكي يحس بالموسيقى في النص الأصلي!
فؤاد حدادفؤاد حداد
يترجم قصائد لشعراء فيتناميين ويقرأ «ماياكوفسكي» ويتحدث عن أوجه شبه تجمعه به! يترجم مع «صلاح جاهين» قصائد لـ«بريخت».. يحب فن التصوير والكتب الفنية ويعرف «سيزان» و «بيكاسو» و«ليجيه» والانطباعيين الفرنسيين والفنانين المكسيكيين «أورزوكو» و«ريفيرا»..يقرأ «شكسبير» في ترجمات فرنسية ويحلم بترجمته إلى العامية المصرية.. يترجم بالفعل مسرحيات لـ«موليير» و«بيتر فايس» إلى العامية.. ينفتح كل هذا الانفتاح على العالم والثقافات الأخرى..لكنه كان يحفظ أيضا آلافاً من أبيات الشعر العربي والشعر الشعبي المصري واللبناني.. كان وجهه - الطيب العذب الملامح- يكفهر حين يخطئ أحد في النحو أمامه ما دام يستخدم الفصحى، يؤذيه الخطأ لا عن تعصب بطبيعة الحال، فهو ملك الكتابة بالعامية المصرية، ولكن عن غيرةٍ على اللغة والتراث وحبٍ لـ"الأصول". لا غرابة أن يدعو «فؤاد حداد» ربه: "يا رب ولا يتبدّل أبداً حمل الوطن من على أكتافي"، وأن يصف نفسه في أُخريات أيامه فيقول: "فؤاد حداد لابس الوطنية فوق البيجامة". كان ما يملكه شاعرنا العظيم من متاع الدنيا قليلاً. كانت الوطنية هي الشعار والدثار لجسده الذي تسري فيه الوطنية مسرى الدم!

بوسعي أن استطرد فأحدثكم عن نماذج عديدة أخرى سواء من عندنا أو من عند شعوب أخرى.. أحدثكم، مثلا، عن رجال مثل «غاندي» و«طاغور».. أو عن فنانين عظام مثل «أوروزكو» و«ريفيرا» اللذين شقَّا لفن التصوير طريقاً جديداً مستمداً من تقاليد بلادهم- المكسيك- رغم تتلمذهما على الفن الأوروبي ومعرفتهما بكل تقنياته.. أو عن شاعر السينما المخرج الياباني العظيم «أكيرا كيروساوا» الذي اصطنع لنفسه لغة تضرب بجذورها في الوجدان الياباني وفي تقاليد فن الرسم الياباني. لكنني لا أريد أن أثقل عليكم.

أكتفي هنا بأن استشهد بالآية الكريمة: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".؟

*************

تخطر لي حين أدخل إلى مثل هذه المدونات أغنيةٌ قديمة، جميلة وحزينة، للمغني الزنجي الأمريكي، التينور الأشهر «بول روبسون»:
بول روبسونبول روبسون
I met my brother the other day.
I gave him my right hand.

He turned and gave his back,
He scandalized my name.

You call that a brother?
NO! NO!

You call that a brother?
NO! NO!
He scandalized my name!


powered by ODEO

اعذروني إذا قلت إنني أشعر أن هؤلاء يديرون لنا ظهورهم، ولا يحترمون عقولنا. لا أجد للأسف لغة مشتركة بيني وبينهم. أتركهم ضنّاً بتضييع الوقت فيما لا طائل منه، وأتجه صوب من أسعد بصحبتهم وعددهم والحمد لله غير قليل. هؤلاء، في نظري، هم زينة الدنيا وملح الأرض. أحس مع هؤلاء الشباب بأن زمناً أجمل يتخلق الآن في رحم مصر، أمنا العالية الخصوبة، وأتفاءل!


(المقال القادم: "إيمان ثابت.. سلام مربع للروائية الصاعدة!")

ـــــــــــــ
[1]يمكن لمن شاء من قراء الانجليزية الرجوع مثلا إلى كتاب:
Martin Bernal, Black Athena, the Afroasiatic Roots of Classical Civilization
وهو من ثلاثة مجلدات صدر آخرها منذ شهور قليلة (أغسطس 2006). كما يمكن الرجوع أيضاً إلى كتابين أسهل في القراءة، وأقل احتياجا للمعرفة المتخصصة، هما:
Kenneth Pomeranz, The Great Divergenc, Princeton University Press, 2000
وC.A.Bayly, The Birth of the Modern World 1780-1914, Blackwell Publishing, 2004

٢٥ يناير ٢٠٠٧

المدونات: عود على بدء

نشرت منذ عام تقريبا، في 21 فبراير 2006 على وجه التحديد، مقالاً في «الشارع الأدبي» تحت عنوان "أقرأ وأتذكر وأقول"، قلت فيه: "تصادفني في زياراتي للمدونات أصوات تمس أوتاراً في نفسي. أتوقف عندها وأعود إليها كثيراً". ووعدتكم حينذاك بالكتابة عن هذه الأصوات. وبدأت بالفعل بمقال عن مدونة «رنك» تحت عنوان "تبارك الوهاب ونعم الهبة!"

حالت أمور كثيرة بيني وبين مواصلة ما بدأت فيه: ظروفي الصحية أولا، ثم ضيق الوقت (أكل العيش مر!)، وربما أيضا الانشغال بالأحداث الكبيرة التي شهدها العام الماضي وشعوري أحيانا بأنها أفصح من أي كلام.

وهأنذا أعود لأبر بوعدي، ولكن مع تغيير طفيف في خطتي الأصلية. قلت في مقالي السابق: "لا أكتب ابتغاء مرضاة أحد ولا سعيا إلى إغضاب أحد". وأنا عند موقفي. لكنني سأوسع هذه المرة دائرة المدونين الذين أنوي الحديث عنهم لتشمل بعض من أختلف معهم في الرأي. كل الذي أرجوه من هؤلاء هو ألاّ يأخذوا كلامي على محمل التجريح الشخصي. فأنا انتقد أفكاراً ومواقف لا تتجسد في أشخاص معينين بالذات. لا أتهم أحدا، وليس بيني وليس بيني وبين أحد من هؤلاء الذين انتقدهم خصومة شخصية. ولن أتحدث، كما سترون، إلا عن زملاء أتصور أن بيني وبينهم، رغم اختلاف الرأي، لغة مشتركة بل ونقاط اتفاق. هناك آخرون لا تجمعني بهم لغة مشتركة ولا أجد جدوى من الحوار معهم. وهؤلاء لن اشغل نفسي بهم.

قلت أيضا في مقالي السابق: لا تربطني معرفة شخصية بمن أنوي الحديث عنهم. وتقتضيني الأمانة أن أقول إنني سأسمح لنفسي باستثناء واحد هو زميلتنا المدونة «سامية جاهين».

سأبدأ هذه المرة بمقدمة طويلة إلى حدٍ ما، آمل ألاّ تكون ثقيلة الظل، عن مدى أهمية المدونات وحدود دورها في مجتمعنا المصري. هذا رأي شخصي قابل للمناقشة بلا جدال. أرجو ألاّ يُغضب أحدا!

*********
منذ بدأت في متابعة ما يكتبه المدونون المصريون وأنا مشغول بسؤال لم أجد إجابة شافية عليه حتى الآن: إلى أي مدى يمكن القول بأن هؤلاء يعبّرون عن الرأي العام المصري؟

أدرك بطبيعة الحال أن المدونين، في ظروفنا المصرية، لا يمكن اعتبارهم ’عينة ممثلة‘ للمجتمع المصري، أو حتى للشباب المصري، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح في علم الإحصاء أو في الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي. فالتدوين يحتاج إلى قدرٍ من اليُسر المالي والمعيشي، يُسر يوفر لصاحبه أولاً وقت الفراغ اللازم لممارسة التدوين وتعلم وتطوير المهارات المطلوبة، ويتيح له القدرة على شراء الأجهزة وسداد فواتير التليفون أو الاشتراك في شبكات الاتصال السريع بالإنترنت، أو حتى ممارسة التدوين من مقاهي الإنترنت كما تفعل قلة من المدونين. يجب ألا يغيب عنّا هنا أن مصر تحتل مركزا متدنياً جداً بين دول العالم سواء من حيث نسبة مستخدمي الإنترنت بوجه عام، أو نسبة المشتركين منهم في شبكات الاتصال السريع، إلى مجموع السكان. هذا فضلاً عن أن المدونين ومطالعي المدونات لا يشكلون في النهاية سوى نسبة ضئيلة من مستخدمي الإنترنت في مصر.

ولا شك أن هذا يُخرج المدونين من دائرة من يمكن تسميتهم بـ’المواطنين المصريين العاديين‘ (average Egyptians) ويجعل منهم نوعاً من ’النخبة‘. لا أقصد بذلك أنهم يشكلّون مجموعة تنفرد بقدرات ذهنية خاصة أو بنفوذ ثقافي أو سياسي يميزها عن سائر المصريين. ما أقصده بالنخبة هنا هو أنهم يشكلون، بالمقياس الإحصائي، مجموعة أقلية (minority group) تستخدم وسيلة خاصة في التعبير عن نفسها، وهذا هو القاسم الوحيد المشترك بين ما تضمه من أفراد ينتمي معظمهم بالضرورة، بمقاييس الدخول في مصر، إلى شرائح ميسورة نسبياً من الطبقة الوسطى المصرية.

من هنا، فإنني أضع ظاهرة التدوين في مصر في حدودها الحقيقية، فلا هي بـ’الصحافة البديلة‘ كما يحلو للبعض أن يسميها، ولا بالقوة المؤثرة على الرأي العام، ولاهي حتى بالوسيلة التي يمكن الركون إليها في التعرف بيقين على اتجاهات التفكير بين الشباب المصري في جملته. ربما تغير هذا الوضع في مستقبل بعيد، لكنه يظل الأمر الواقع، الآن وفي المستقبل المنظور وحتى إشعار آخر.

لسنا هنا بصدد حكم من أحكام القيمة، بل بصدد حكم من أحكام الواقع. فليس في الانتماء إلى أي طبقة أو شريحة اجتماعية، سواء كانت دنيا أو عليا أو بين بين، ما يعيب أي إنسان، أو ما يجعله بالضرورة أسيراً لرؤية معينة أو لقواعد حديدية للسلوك. والمدونون بالفعل كتلة غير متجانسة تضم أطيافا شتى وتعبر عن اتجاهات متباينة. لكننا نتجاوز الواقع كثيرا إذا توهمنا أننا نستطيع النفاذ إلى الصورة العامة لتفكير الشباب المصري من خلال المدونات. المدونات لا تعطينا سوى جانب ضئيل من الصورة، ولا تكشف في اعتقادي عن الاتجاهات السائدة في تفكير الشباب في جملته لأن أحدا لا يعرف– بأي قدر من اليقين– كيف يفكر السواد الأعظم من الشباب.

أضع هذه الضوابط نصب عيني حين أحاول أن استشرف من خلال المدونات اتجاه الريح في التفكير لدى هذه ’النخبة‘ بالمعنى الذي أوضحته. لا يقلقني كثيراً الصخب في بعض المناقشات ولا الزوابع التي تثور بين الحين والآخر. أعرف أن التدوين لا يعدو أن يكون ركناً صغيراً من مجتمع واسع ومعقد يضم ثمانين مليوناً من البشر، وأدرك أن أكثر الأصوات صخباً في عالم التدوين قد لا تعبر عن اتجاه له وزن في هذا المجتمع الواسع، وأن صداها سيظل محكوما بقوى وعوامل وتفاعلات تقع خارج عالم التدوين، وربما لا تخطر على بال أصحاب هذه الأصوات الصاخبة أنفسهم. أهم ما يشدني إلى المدونات هو الرغبة في التعرف على مبدعين جدد، في استطلاع استخدامهم للغة والتعرف على الاهتمامات التي تشغلهم، في الوقوف على التغير في موازين القيم الاجتماعية والإبداعية من خلال كتاباتهم واجتهاداتهم الإبداعية. أريد أن أتجدد معهم..!

(يتبع)

٢٤ يناير ٢٠٠٧

«عبد الحق» في الشارع الرئيسي!

يعود «عبد الحق»، بعد غيبة طويلة، إلى التدوين في «الشارع» هذه المرة لاستكمال ما بدأه في «الشارع الأدبي» في فبراير من العام الماضي - بسلسلة عن التدوين والمدونين بعنوان "المدونات: عود على بدء".

إنتظروها هنا في الشارع الرئيسي!

لبنان: شعب صنع حريته

" .. هذا السيل البشري الذي اضطلع بدور حاسم في إحباط الهجوم الإسرائيلي كان ثمرة لحركة جماهيرية غير مسبوقة أخذت تتنامى عبر لبنان بينما القنابل تنهمر كالمطر.

وقد مارست هذه الحركة عملها بمعزل عن أي تنظيم حكومي رسمي، وكان زمام المبادرة فيها في أيدي السكان المحليين في أغلب الأحيان:

الطهاة يتولون العمل في مطابخ الفنادق الكبرى لإطعام عشرات الآلاف من المهجرين..

سكان الأحياء في مناطق اللجوء يتنقلون من بيت إلى آخر ليأتوا منها بالوجبات الساخنة والملابس وحليب الأطفال والبطاطين..

أطباء وفرق للرعاية الطبية يفتحون عيادات مؤقتة..

الشقق الخالية تُفتح لإيواء عائلات اللاجئين.

ظل الإسرائيليون طيلة أكثر من شهر يأملون في إجبار حزب الله على الاستسلام عن طريق ترويع سكان الأحياء الشيعية..."

المزيد في الشارع السياسي
.