١٥ فبراير ٢٠٠٧

رحاب بسّام

 No man is an Iland, intire of it selfe; every man is a peece of the Continent, a part of the maine… And therefore never send to know for whom the bell tolls; It tolls for thee 
«John Donne»
(”ليس هناك بين البشر من هو جزيرة مكتفية بذاتها. كل إنسان جزء من أرض تمتد بلا فواصل، جزء من الكل... لا تبعث إذن أحداً ليخبرك بمن تنعيه الأجراس، فالأجراس تنعيك أنت.“)
الشاعر الإنجليزي «جون دن» (1572-1631)

قال لي أستاذ للأدب العربي، يعمل بإحدى جامعات الولايات المتحدة، إن «رحاب بسام»، صاحبة مدونة «حواديت»، هي أخف المدونين المصريين ظلاً. وقلت له: هذا صحيح. ولكنها من أكثرهم حزناً أيضاً.

مدونة «حواديت» سكر مُر: مزيج من شقاوة الأطفال الحلوة وفزع الكبار المر من الحياة!

*********

حواديت رحاب بسام
«رحاب» قارئة نهمة: أتابع باستمرار الكتاب الجديد الذي تضعه تحت مخدتها بأسفل الجانب الأيمن من الصفحة الرئيسية (الكتاب وليس المخدة!). وهي عاشقة أيضا للبطاطا والآيس كريم والبطيخ وعالمة متبحرة في ”أصابع زينب“، ولها في هذا المجال طقوس وأفانين ومجازات لغوية غير مسبوقة منها مثلا ”إني أسبح في المهلبية تماماً“ و”أنا أسير على ساقين من الجيلي“. هل تذكرون قصتها الجميلة ”أرز باللبن لشخصين“؟ هل رأيتم مدى الحب والاستغراق المطلوبين ”لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين“؟ : ”بإحساس مرهف اضيفي رشة من القرفة وأخرى من الفانيليا، كل رشة بيد. افركي يديك سوياً ومرريهما باستغراق على رقبتك. الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح“. هكذا تكتب «رحاب»، فيما أتخيل، نصوصها. تعطينا كل كيانها. الكتابة عندها طبق شهي يتقاسمه الكاتب مع شخص يحبه. تحب قراءها وتحترمهم!

لا شك أنكم لاحظتم، مثلي، شدة تعلقها بطفولتها: صورتها، التي تطالعك إلى يمينك على رأس المدونة، صورة طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها، ثم الصورة الجميلة للحذاء الأحمر الصغير، مع الجورب الوردي، يطلان علينا من قدمي طفلة تحت عنوان عميق الدلالة: ”أنا عندي حنين“، ثم التدوينات الكثيرة التي تتحدث فيها عن طفولتها أو عن أطفال من أسرتها (على سبيل المثال ”جمال الدنيا وحقيقة الأشياء“ و”حنين“ و”أنا، بس على أكبر“ و ”خطوات جديدة“)، وعناوين بعض القصص مثل ”تناتيف من غزل البنات“ و”الخرتيت البمبي البطيء“، وما نستشفه في عالمها من حنين جارف إلى الطفولة وتعلق بها حين تقول مثلا: ”زينت سقف غرفتي بالنجوم والزهور الفسفورية. كيف نسيت الفراشات؟ لماذا لا توجد فراشات فسفورية بجوار الزهور الفسفورية؟

لا شك أنكم لمستم أيضا ما تنضح به كتابتها من ولع شديد ب’الشقاوة الطفولية‘ في نصوص مثل:
كم سيكون رائعاً لو عملت في مجال بلالين الصابون: أجلس على دكة خشبية تحت شجرة ظليلة وأمامي صندوق خشبي عليه جردل كبير، وأكواب بلاستيكية، وقطع من خرطوم بلاستيكي. يأتي الأطفال ساعة العصاري ليشتروا مني أكواب الصابون، المخلوط بقليل من السبرتو، فهو الذي يجعل البلالين ملونة، هذا هو سر الصنعة.أو:
أفكر في عمودي الفقري: أبدأ في تلوينه بالأزرق الجميل، من أول فقرة لآخر فقرة..أو:
جيت أقوم من السرير ما عرفتش. قمت واقفة على راسي. بصيت لفوق (بالمشلقب)...
تأملوا، مثلاً، المفارقة بين اللغة الرصينة والنبرة الجادة في عبارة مثل: ”كم سيكونُ رائعاً لو عملتُ في مجالِ بلالين الصابون... هذا هو سرُ الصنعة!“، وبين مضمون هذه العبارة. ألا تفجّر فيكم هذه المفارقة ضحكة صافية من أعماق القلب؟

لا شك أن هذه ’الشقاوة الطفولية‘ تعطي لنصوص «رحاب» الكثير من جاذبيتها وخفة ظلها. من منا لا تبهره قدرة الأطفال على التعبير بعفوية وبراءة؟ من منا لا يتوق إلى هذه الطلاقة المتحررة من حسابات الكبار و وساوسهم؟ ألا يخالجنا أحياناً حين نعود إلى صورنا في أيام الطفولة، أو حين تبهرنا رسوم الأطفال وكلامهم، شعور يجعلنا نقول مع «صلاح عبد الصبور»:
”لو أننا.. لو أننا..
لو أننا، وآه من قسوة ’لو‘
...
لكننا...
وآه من قسوتها ’لكننا‘
لأنها تقولُ فى حروفها الملفوفةِ المشتبكة
بأننا نُنكرُ ما خلّفَتِ الأيامُ فى نفوسنا
نودُ لو نخلعُهُ.. نود لو ننساه
نود لو نعيدهُ لِرحمِ الحياة“
لكن هذا الحنين إلى الطفولة، الذي قد يوجد في نفوس كثيرين، يتسع عند «رحاب» ليظلل كل عالمها. مما يلفت نظري أيضا أنه يلقى تجاوباً واسعاً من قراء مدونتها وبخاصة الإناث منهم. تقول إحداهن لها: ”في طفولة جميلة وصادقة قوي في كتاباتك يا رحاب“. أتساءل هنا: هل تعبّر «رحاب»، بهذا الحنين إلى الطفولة والتعلق بها، عن شعور عام لدى شبابنا ولدى الشابات بصفة خاصة؟ هل هو مجرد الاحتياج الأنثوي إلى حنان الأم (والأسرة) وإلى ممارسة الأمومة (to mother and to be mothered)....؟ أم أن هناك أسبابا أخرى تتصل بمجتمعنا المصري على اتساعه وبظروفنا الاجتماعية الراهنة؟ أتجاسر هنا فأزعم أن هذا الشعور بالحنين إلى الطفولة يكاد يشكل الآن ظاهرة عامة لدى الشباب من بنات وأبناء الشرائح الميسورة نسبيا من طبقتنا الوسطى. بطبيعة الحال يتفاوت عمق هذا الشعور من الإناث إلى الذكور ومن فردٍ إلى آخر. لكن تأملوا معي أبناء وبنات هذه الشرائح الميسورة نسبيا من الطبقة الوسطي وهم يخرجون إلى الحياة العملية (’صدمة الولادة الثانية‘ كما أسميها!) ليصطدموا بعالم شديد القسوة والخشونة: خطر البطالة قائمٌ دائماً، والصراعُ على فرص العمل المتاحة معركةٌ ضارية يخوضها الكل ضد الكل، وأحلامُ تحقيق الذات تتمزق وتنتهي في كثير من الأحيان إلى الإحباط المُر واليأس القاتل وربما الاكتئاب الذي لا شفاء منه، والتنازلات المطلوبة تكاد لا تنتهي في عالم يحكمه الفساد، والمحسوبية، والرشوة بكل صورها. كل الأسلحة أصبحت مشروعة وشائعة الاستخدام في هذا الصراع الضاري: قوانين العرض والطلب تجعل السادة المتحكمين يطلبون الكثير جداً وتُجبر الآخرين على دفع الثمن الفادح. إذا لم تدفعه أنت هناك آلافٌ غيرك مستعدون لدفعه. والضغوط التي تتعرض لها الإناث أقسى بكثير مما يواجهه الذكور..

هل أبالغ؟ هل تجدون هذه الصورة بعيدة عن الواقع؟ هذه، على أية حال، هي الصورة العامة كما تبدو لي من واقع خبرتي الشخصية ومما أسمعه من الآخرين. أليس طبيعياً، إذن، أن يحن هؤلاء إلى طفولتهم؟ أن يحلموا بالانسحاب من هذا العالم القاسي الشديد الخشونة، الذي لا تدليل فيه، إلى عالم حواديت الجدات، عالم اللهو والانطلاق والشعور بالأمن يسبغه عليهم حنان الأهل والبيت حيث الظروف ميسرة نسبيا لإشباع احتياجات الطفل؟ أكرر هنا مرة أخرى أن هذا الشعور يتفاوت قطعاً من فردٍ إلى آخر باختلاف ظروف النشأة، ولكن هذه هي الصورة العامة. أبناء الطبقات الفقيرة ’المخربشين‘ لا يتملكهم في الغالب هذا الشعور بمثل هذه الدرجة من العمق، فهم يفتحون عيونهم على قسوة الحياة وخشونتها منذ نعومة أظفارهم. كذلك شأن أبناء الفئات التي تحتل قمة الهرم الاجتماعي، فهؤلاء أمورهم ميسّرة وأماكنهم في الغالب محجوزة سلفا أو يمكن تدبيرها بسهولة بقوة النفوذ أو بقوة المال. هؤلاء لا يعانون، في الغالب، ’صدمة الولادة الثانية‘ أو،على الأقل، لا يعانونها بنفس القسوة.

لا أريد بهذا التفسير أن أغمط «رحاب» حقها. كل ما أريد قوله هو أن كتابتها تمس أوتاراً في قلوب كثيرين من المدونين وقراء المدونات. هناك، إذا جاز التعبير، ’طلب اجتماعي‘، في عالم المدونات الصغير، على مثل هذا النوع من الكتابة! لا غرابة أن يقول أحد المعلقين على قصتها الجميلة ”الشباب الدائم للألوان“: ”....حظي معاكي انك بتلمسي الوتر الحساس...الوضع الراهن... الحالة عموما.“، وأن يقول معلق آخر: ”نفسي أبقى أبيض، أو الأصح أرجع أبيض. أنا فاكر إني كنت أبيض في يوم من الأيام“.

هذا الحنين إلى الطفولة يعبر عنه أيضا شاعر موهوب ينتمي إلى جيل «رحاب» هو «عمر مصطفى» صاحب مدونة «تجربة»:
”عيِّل..
باحب ده علشان باحبه و مابكرهوش..
حتى لو كان مش جميل
ولسّه وشّى.. محتاجش لرتوش
ولسّه قلبي.. ماحتاجش لبديل
باحلم بنفسي طويل طويل
واما يجينى نعاس باميِّل
عيِّل.. “
لكن كتابات «رحاب» تعطينا ما هو أكثر من مجرد الحنين إلى الطفولة. تعطينا شعورا بالخوف من مرور الزمن. هل هو شعور أنثوي ضاغط هذا الخوف من مرور الزمن؟ وهل هو سبب آخر يفسر التجاوب الذي تلقاه من قارئات مدونتها؟

أكثر من ذلك، يقترن هذا الخوف من مرور الزمن، في نصوص «رحاب»، بحلم مستحيل هو الإفلات من قبضة الزمن! تبدو هذه الرغبة المستحيلة واضحة جداً في نصين جميلين هما ”عن نبع يترقرق وغابة تحجرت“ و”الشباب الدائم للألوان“.

في ”نبع يترقرق“ تقول الراوية: ”... تمنتْ لو تُثبّتْ عناقهما هذا أيضا. فيظلان هكذا للأبد: هو نائم على صدرها، وهي تقبّل جبهته مرة واثنتان، وثلاث. سيظلم العالم من حولهما، ويستريح التراب فوقهما [...] ولكن لن يفارق هو حضنها، ولن تشتاق جبهته لشفتيها. وبمرور الزمن تصير هي النبع الذي لا تعرف غابته غيره. فتترقرق ويتحجر، حتى يفلتهما الزمن من قبضته“. (يخطر لي هنا قول الشاعر الجاهلي: ”ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ تمضي الحوادثُ به وهو َملْمومُ!“ كان يحلم هو الآخر بالإفلات من قبضة الزمن. لكن المرأة في هذه القصة تتمنى ما هو أكثر: تثبيت اللحظة إلى أن يتحجر هو بينما تظل هي نبعاً أبدياً يترقرق!).

في ”الشباب الدائم للألوان“ تقول المرأة: ”لماذا؟ اسمعني: يهدر الإنسان عمره وهو يحاول أن يعرف ماهيته، وهو يحاول أن يبحث عن طريقه، وهو يحاول أن يكون شيئاً آخر. ولكن هذا الموضوع محسوم بالنسبة للألوان“. المرأة، التي تحدثنا عنها الراوية في هذا النص، تريد لنفسها هوية ثابتة، خضراء دائمة النضرة، ”بطعم الشمام المثلج!“. في هذه القصة صورةٌ، قاسيةُ الجمال، لهذه المرأة التي تحلم بهوية أبدية تحتمي بها من عوادي الزمن: ”تنهدتْ. وضعتْ جانباً غربالَ الأحلام ولملمتْ أطراف جناحها وجلستْ القرفصاء“. (اشعر هنا ب «سارتر» يتقلب في قبره. ألم يكن هو القائل بأن ”الوجود سابق على الماهية“، وبأن ”الإنسان محكوم عليه بالحرية“، بمعنى أن الإنسان يأتي إلي الوجود ثم يبدع ماهيته من خلال الفعل الحر؟ هاهم شبابنا قد أرهقهم هذا السعي المضني إلى تحقيق الذات، وإبداع الهوية من خلال الفعل، في عالم القيود والسدود الذي نعيشه! أشعر أيضا ب «باولو كويلو» يمصمص شفاهه: لماذا لا تحشد هذه المرأة كل قواها لاستحضار’روح العالم‘ لتكون معها وهي تشق طريقها إلى ما تريد؟ الراوية هنا تشعرنا بأن عصر هذا ’الكلام الكبير‘ قد انتهى. أحلامنا تتسرب من الغربال، وعلينا أن نلملم أطراف جناحها. ليس هذا عصر إبداع الهوية بل عصر ’القتل على الهوية‘!).

ليست هذه بالتأكيد مجرد ’شقاوة طفولية‘، ليست الخيال الطليق للطفل كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. الطفل لا يخاف عادة من مرور الزمن، يحلم دائما بأن يكبر، بأن تمر الأيام حتى يصبح مثل الكبار وتصبح له قدرتهم وحريتهم. لسنا أيضا أمام مجرد الخوف الأنثوي من الزمن، الذي يولي الأدبار، والفزع مما قد يحمله مقبل الأيام. أشعر هنا أننا أمام فزع من الحياة نفسها وما آلت إليه، ملل قاس من الحياة الراكدة المكرورة. تقول «رحاب» في نص آخر: ”هناك شيء قاس جدا في مرور الأيام بمنتهى العادية. إيه الدنيا دي؟ لماذا لا تتوقف وينقلب كيانها لتشاركني حزني؟ أم هي مثلي: تستيقظ كل يوم وتمارس حياتها العادية و تحاول ألاّ تتوقف عند ما يؤلمها؟“. إن كان ثمة بصيص من أمل قد بقي في هذا العالم فهو الأمل في حدوث معجزة: أن نتحول إلى نبع يترقرق أو إلى خضرة دائمة النضرة.. أن يُفلتنا هذا الزمن الرديء من قبضته التي تخنقنا! هذا الحلم باستمرار القدرة على التجدد والعطاء، أو على الأقل بالتطلع إلى التجدد والعطاء، يكتسب في نصوص «رحاب» عمقاً يجعلني أحس به وقد تحول من شعور أنثوي مألوف (حرص الأنثى على نضارتها وجاذبيتها وتعطشها الغريزي إلى الأمومة) إلى شعور عام يتملك الآن أجيالنا الشابة المحبطة، المتعطشة مع ذلك إلى معجزةٍ ما تتيح لها فرصة التجدد وتحقيق الذات.(لعل هذا الحلم بالمعجزة يراود الكبار أيضا: قال لي الروائي المصري الكبير « بهاء طاهر»، في مناقشة دارت بيننا منذ سنوات، ”إن الشعب المصري له ’ميكانيزماته‘ الخاصة للتغلب على الأزمات“. عنده، هو أيضاً، نفس الحلم بأن يحدث التغير المنشود من خلال طرق لا تخطر لنا على بال ويقصر عن إدراكها وعينا الراهن! لكنه يحلم بمعجزة تحقق الخلاص الجماعي لا الفردي. مازال يعيش، مثلي، في عصر ’الكلام الكبير‘! مازال يؤمن، مثلي، بأن التاريخ لم ينته بعد!).

تقول
«رحاب» رداً على أحد المعلقين: ”أنا عادة ما اقدرش أقول غير اللي بحس به“. ليس من قبيل الصدفة، إذن، أن يكون الراوي في غالبية نصوصها هو ’الأنا السارد‘ (صوت الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلم)، بل وأن يتماهى هذا ’الأنا السارد‘ في كثير من النصوص مع ’المؤلف‘- أي مع «رحاب بسام» نفسها- مما يجعل بعض هذه النصوص أقرب إلى ’اليوميات‘ (diaries) منها إلي الأشكال السردية الأخرى المنتمية إلى ما يسمى ب ’القص التخيلي‘ (fiction). حذار أن يظن أحد هنا أن هذا يقلل من شأن نصوص «رحاب»، ف’اليوميات‘ نوع أدبي لا يقل أهمية ومكانة عن أي شكل سردي آخر وتندرج في إطاره نصوص لأكبر الكتاب، وربما كان هو الشكل السردي الأقرب إلى روح ’التدوين‘. أريد أن أقول هنا بوضوح- حتى لا يساء فهمي- إنني لا اقصد بذلك التقليل من قدرة رحاب على كتابة ’القص التخيلي‘، فقد برهنت بالفعل على براعتها في كتابة ’القصة القصيرة‘، بمواصفاتها المعروفة، بلغة طازجة ومتميزة (انظر مثلا: ”عالم صغير“ و”الشباب الدائم للألوان“).

تأملوا معي، مثلاً، تدوينتها ”محاولة لترجمة الحياة“. هل يخامركم أدنى شك أن الراوي- ’الأنا السارد‘- هنا هو «رحاب بسام» نفسها؟ في الفقرة الأخيرة من هذا النص نقرأ: ”وعندما لاحظت أستاذتي أنني أنظر لها بتركيز شديد...، اوقفتْ التسجيل وسألتْ: ’في إيه يا رحاب؟‘“. كان بوسع المتابع لمدونة «رحاب»، حتى بدون هذه الإشارة الواضحة، أن يدرك أن «رحاب» تحدثنا في هذا النص عن نفسها. هذا ما يجعلني أقول أن هذا الشكل أقرب إلى ’اليوميات‘.

أشعر هنا ب«رحاب» تسألني: ”طيب وبعدين.. عاوز توصل لإيه؟“ ما أريد أن أصل إليه هو أن ’الراوي‘ في معظم نصوص «حواديت» يتماهى مع ’المؤلف‘ وتشحب الحدود بينهما إلى الحد الذي يجعلنا نقول: هذه «رحاب» تتحدث عن نفسها! هذه نصوص أقرب إلى ’البوح‘ تكتبها أديبة تزداد على مر الأيام تمكناً من أدواتها، بارعة في اجتذاب انتباه قارئها إلى ما تحكيه. (أتساءل هنا هل يشترك الأديب/الأديبة مع الطفل في هذا الاهتمام البالغ بشد انتباه الآخرين إلى ما يقوله؟).

سألت باحثة أدبية شابة، أثق في حسن تقديرها، عن رأيها فيما تكتبه «رحاب»، فقالت لي إن عالم «رحاب» شديد الذاتية، وإنها تنسحب، في رأيها، من ’العام‘ إلى ’الخاص‘. وقلت للباحثة الشابة: المفارقة هنا أن هذا الانسحاب من العام إلى الخاص يعبر عن موقف عام، إن لم يكن لدى غالبية المصريين (الأغلبية الصامتة كما يسمونها) فعلى الأقل لدى قطاع عريض من شبابنا.

هذا، في اعتقادي، سبب رئيسي للتجاوب الواسع الذي تلقاه نصوص رحاب من قراء مدونتها. حين نعود إلى تدوينة ”محاولة لترجمة الحياة“ نجدها تنتهي بالجملة التالية: ”ففتحت فمي فلم يخرج سوى: ’أنا خايفة أوي‘“.

هكذا تترجم «رحاب» ’الحياة‘ (بألف لام التعريف). ترفض رأي بعض المعلقين الذين قالوا إن العنوان واسع على ’القصة‘. تصر على أن هذه ترجمة لـ’الحياة‘. الحياة أصبحت، في إحساسها، مرادفة للخوف (”أنا عادة ما اقدرش أقول غير اللي بحس به“). تعالوا لنرى كيف تجاوب المعلقون، ومعظمهم من الإناث، مع هذا النص:
  • ”تفاصيل جميلة لسرد واقع يومي محفوف بالقلق والتوتر“
  • ”أنا كمان عندي حالة فزع من كل الشوارع. مؤلم قوي إن دي تبقى حالة عامة“
  • ”خوفنا وحذرنا زاد الف مرة.. حتى اصحابي عندهم نفس الإحساس“
  • ”متهيأ لى إنه خوف داخلي أو خوف من الدنيا نفسها“
  • ”قلت اللي أنا بحس بيه..بس يفضل في الآخر احساس بقى رابض جوايا يارحاب، من ’ده‘ مع أشياء أخرى..خايفة أوي“
  • ”عشت القصة بكل تفاصيلها معك.. سيء الشعور بالخوف.. سيء جدا“
  • ”أنا خفت لما قريت كلامك“
  • ”يمكن الخوف كان مالينا من زمان.. بس ما قدرش يخرج غير دلوقتي..أنا بقيت بخاف جدا ومخنوقة من شعور الخوف ده“
  • ”الحياة عن جد مقرفة“
هل رأيتم مدى التجاوب؟ «رحاب»، التي تبدو لنا محارةً بحرية تحتمي بصَدَفتها الصلبة، يتردد صدى كل خلجةٍ فيها في كل المحارات الأخرى المحتمية وراء صَدَفاتها في بحيرة التدوين!

لكن هناك مُعلّقاً آخر يقول: ”حسيت إن الخوف أو (الرعب) بالصورة دي هنا غير مبرر. حسيت إن فيه أسباب تانية غير مكتوبة“. قراءة هذا المعلّق مختلفة في اعتقادي لأنه يحصر نفسه داخل هذا النص وحده، لأنه قرأه كقصة قصيرة مكتملة العناصر، مكتفية بذاتها إذا جاز التعبير.

حين نعود إلى النص لنعرف السبب في كل هذا الرعب الذي استولى على «رحاب» سنجده:
مجموعة أولاد يسيرون خلف وأمام و بجوار مجموعة بنات. ”الأولاد يعاكسون البنات، والبنات يضحكن أو يسرعن أو يتمايلن أو ينهرن الأولاد“.. ”ولد لا يمكن أن يتعدى الثانية عشرة من عمره يشتمهن [بأقذع الشتائم] ثم يجري“.. ”الأولاد أخذوا في الاقتراب أكثر من البنات، والتطاول عليهم بالكلام، والبنات توترن وأخذن في الرد على الأولاد...“

عندئذ، تقول لنا «رحاب»: ”يخفق قلبي بعنف حتى أشعر به يضغط على رقبتي ويكتم أنفاسي“ (تمْثُل في وعيها أحداث ’التحرش الجنسي‘ التي وقعت قبل أسبوع في وسط المدينة).. ثم تقول في النهاية: ”ففتحت فمي فلم يخرج سوى: ’أنا خايفة أوى‘“.

تستخدم «رحاب»، ببراعة، تقنية ’الكولاج‘ (لصق عناصر خارجية تقطع السياق وتبدو في ظاهرها غير متصلة به) لتعميق إحساسنا بالخوف الذي استولى عليها. هذه الفقرات الباردة الروتينية المستمدة، فيما يبدو، من كتاب مدرسي لتعليم الترجمة الفورية، تعمّق بالفعل شعورنا بالإيقاع اللاهث المشحون بالانفعال في هذا النص السردي، وتضفي درامية على شعور الراوية («رحاب») بالتمزق بين هذه ”التعليمات“ المطلوب منها الانصياع لها وبين الواقع الذي تعيشه، بين عملٍ، يقتضي منها أقصى قدر من التركيز والتحكم، وظروفٍ، داخلها وخارجها، تُجْهز على أي قدرة للتركيز والتحكم!

قد تبدو لنا ’استجابة‘ «رحاب» (”انا خايفة أوي“) لـ’المثير‘ (الأولاد الذين يعاكسون البنات) مبالغاً فيها. فهذا مشهد يومي مألوف في شارع «الشيخ ريحان » حيث توجد مدارس للبنين والبنات في سن المراهقة. ولكن هذه الاستجابة تبدو لي طبيعية تماما من «رحاب» كما أعرفها من خلال مدونتها، رحاب التي تقول لنا في تدوينتها ”أن تنسى“: ”أن تنسى هو أن يمضي اليوم بدون أن تتساءل ماذا يفعل ذلك الشخص الآن.... أن تعتاد أن تكون وحدك، أن تقتنع أنك وحدك“...”أن تنسى هو أن تكتشف الصمت، بعد صخب كل تلك الأفكار وكل ذلك الكلام الذي تتمنى أن تقوله“... [هو أن] ”تتوق للعودة إلى المنزل والنوم مبكرا لتنهي هذا اليوم بيدك، لتشعر أن وسط هذا العبث مازال لديك الاختيار بين أكثر من طريقة لإهدار أيامك“. (تخطر لي هنا أبيات لـ«إليوت»: The only hope, or else despair/ Lies in the choice of pyre or pyre/ To be redeemed from fire by fire). كانت رؤية ذلك المشهد هي القشة التي قصمت، في تلك اللحظة، ظهْر ”الخرتيت البمبي البطيء“ وأخرجت كل مخزون الخوف الرابض في أعماقه!

أريد أن أتوقف، في النهاية، أمام تدوينة ”فوضى التكوين“..

أبدأ بـ’الاقتباس الاستهلالي‘ (epigraph) المأخوذ من قصيدة ”أغنية العاشق بروفروك“ للشاعر الإنجليزي العظيم «ت. س. إليوت». أخذت «رحاب» مقطعاً من القصيدة يحدثنا عن ”الضباب الأصفر الذي يحك ظهره على زجاج النافذة“، ”الدخان الأصفر الذي يحك أنفه في زجاج النافذة“، بعد أن ”لعق بلسانه أطراف المساء“. سأتجاسر هنا وأعرض عليكم قراءتي النثرية لهذا المقطع من القصيدة:

ظلمةُ المساء تهبط مختنقةً بالضباب- التشوش وتعذر الرؤية- والدخان- ثمة شيء يحترق!- حيوانٌ أصفر هائل يحاصرنا ويحاول بإلحاح أن يقتحم الدار علينا- يحك ظهره ثم يحك أنفه على زجاج نوافذنا! تتكرر كلمة ”الأصفر“ مرتين فتستدعي في نفوسنا صفرة الذبول وصفرة الموت. لا يريد هذا الحيوان الأصفر الهائل أن يرحل عنا: يتلكأ وهو يدور حول الدار، يترك ”سناج المداخن يسقط على ظهره“ (يستخدم «إليوت» كلمة soot أي السناج أو ’الهباب‘ الحالك السواد)، يغشى السوادُ الصفرةَ فتكتمل الدائرة: ظلمة و تشوش واحتراق وذبول وحزن رابض لا يريد أن يرحل! لا يلبث الحيوان الأصفر الهائل المجلل بالسواد أن يلف جسمه حول الدار- يحاصر الدار- ويروح في النوم! هنا مكانه ومستقره!

هذه هي ’عتبة‘ الدار التي تأخذنا إليها الراوية. هنا لا تستخدم رحاب ’الكولاج‘، القص واللصق المحسوب بدقة وعناية، على نحو ما استخدمته من قبل، بل تقدم عملا أقرب إلى اللوحات المصنوعة من قصاصات متعددة المصادر تبدو، في ظاهرها، دون نسق محدد أو واضح يحكم تشكيلها في اللوحة (patchwork). إنها ”فوضى التكوين“: قصاقيص من هنا وهناك: أصداء حوارات محبطة، و مقاطع وأبيات من قصائد تلح على الذاكرة، ومونولوج طويل متناثر، ممزق ومتلجلج، يمتد بطول النص:
فيرجينيا كانت بتسمع أصوات... [...]
 
حاسة إني تلاجة... مقفولة... ومخزنة الحاجات جواها... وبتفتح حتة صغيرة أوي... تديك حاجات باردة ومالهاش طعم... وكل اللي بتاخده بتبرده وتشيله.
 
عارفه إن إليوت كان في مصحة عقلية؟ [...]
 
’كتابة علاجية؟ هأو أو أو...شي الله يا علاجية!‘ [...]
 
’لأ لأ...حاسة زي ما أكون حتة خشبة ناشفة...عندها استعداد تام للاشتعال في أي لحظة.‘
 
- سامع الصوت ده؟
- صوت إيه؟
- صوتي...وأنا باتفتت...حتت صغيرة...صغيرة... [...]
 
بيقولوا إن مضاد الاكتئاب بيخليكي تقومي من السرير وتروحي الشغل... إزاي يعني؟... [...]
 
دماغي ترابيزة بلياردو... [...]
 
ولما سألوني وإنتي عاملة إيه قلت لهم أنا زي ما أنا...وحسيت إن في صاعقة هتنزل من السما على راسي علشان دي أكبر كدبة كدبتها في حياتي...أنا أكيد مش زي ما أنا... [...]
 
- أنا ماعنديش أحلام بتتكرر...هو بس حلم النمر اللي بيجري ورايا وبيت جدتي في أبو قير اللي بيتحرق.
 
في عمر بيولوجي محدد لجسم الست. [...]
 
تفتكري هنبقى زي الست دي لما نكبر؟... [...]
 
روح العالم يا سيدي إديتني بمبة المره دي... [...]
 
وبعدين قعدت وقت طويل أوي أفكر في المسافات التانية... اللي حطتها واللي لسه باحطها... بيني وبين الناس... بيني وبين نفسي.
تقول الراوية في نهاية مونولوجها المتناثر: ”عاوزه أقف فوق الجبل ده واصرخ بعلو صوتي: ’فلتحل الفوضى على العالم... وليخرس الجميع إلى الأبد!‘“.

تتخلل هذا المونولوج ’قصاقيص‘ مأخوذة من شعراء يحدثوننا عن الزمن الضائع والعمر المهدر والتشوش والزيف والحيرة والعجز عن التواصل: ”فجأة لقيتني في عز حياتي/ ضاعت مني ثواني كتيرة.. [...] والدمع اللي في عيني بيوجع/ مابينزلش.. ومابيطلعش.“ («أمين حداد»)، و”ما بقيتش شايف إيه اللي جاي وإيه إللي فات/ مابقيتش أفرّق ده أزرق ده ولا أحمر رمادي/ ودي كارثة ولا ده وضع عادي..“ («علي سلامة»). يتخلل المونولوج أيضا ’تصريف‘ لفعل ”كان“ (فعل الكينونة verb to be) : ”أنا أكون أنت تكون هو يكون هي تكون نحن نكون أنتما تكونان أنتم تكونون هم يكونون“. هل تحاول الراوية أن تتشبث بكينونتها- بوجودها- وسط كل هذه الفوضى وهذا الزيف وهذه الحيرة؟ هل تحاول أن تعزي نفسها بالقول بأن هذه الفوضي هي حقيقة الوجود والكينونة والتكوين(كلمة ”التكوين“ في العنوان مراوغة وتحتمل معاني كثيرة عند القراءة)، أم تراها تريد أن تقول لنفسها باستنكار: هل هذا وجود ؟ هل هذه كينونة؟!

أترك هذا السؤال مفتوحا، وأتوقف عند ’قصقوصة‘ أخرى مأخوذة من قصيدة لـ«بهاء جاهين»: ”أنا كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر أنا كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر أنا كبايات....“ تكررها الراوية خمس مرات بدون فواصل، ثم تنشغل عنها بصدى حوارٍ عقيم مع آخر لايفهم، لكنها تعود لتكمل الصورة: ”والخلق ما بتشربش!

ترجع الراوية لتقول: ”أنا بحب الأبيات دي أوي... ودايما لما باقراها باحس إنه بيتكلم عن قلبه... “

يتكلم عن قلبه؟ ربما. وربما أيضا يتكلم عن محنة الشاعر في هذا الزمن: ليس هذا زمان الشعر!

ليس هذا زمان الشعر. ليس هذا زمان تحقيق الذات.هذا زمان الحوارات العقيمة. هذا زمان الطاقات المهدرة والمواهب الموءودة.

من ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه القدرة على معرفة الآخر، بأي قدر من اليقين، وسط كل هذا الضباب الأصفر؟ كلنا نقيم المسافات بيننا وبين الآخرين وبيننا وبين أنفسنا. كلنا نتمزق إلى قصاصات تتبعثر وتضيع !

هذا ما أقرأه في ”فوضى التكوين“!

أسأل هنا : كم مليونا من شبابنا - إناثا وذكورا- يحسون بأنفسهم ”كبايات عصير قصب مليانة ع الآخر والخلق ما بتشربش“؟

و لا أحد يريد أن يسمع! لا أحد يريد أن يرى!

أتساءل: إلى متى؟!

إلى متى؟!


(المقال القادم: "سامية!")

٠٦ فبراير ٢٠٠٧

زنجي والسهروردي

 ”صاحب الحق عينه قوية“
مثل شعبي


أطرب أيضا لما يكتبه «زنجي» و«السهروردي» بعاميةِ مصرية شجية تشدّك بنضارة مجازاتها وثراء إيقاعاتها (كان شاعرنا العظيم «فؤاد حداد» يصف شعره بأنه ”رسم صيني وطبل زنجي“، وها نحن أمام طبل زنجي والسهروردي!). تستقر في ذاكرتي عبارات لهما مثل:
 ”بيفرحني الجمال، بيفرحني أشوفه واسمعه واحسه والمسه، بيفرحني أحضنه والعب في شعره.
(«زنجي»: بفرح)

ولما تِبْقي لابسه السويت شيرت الزرقا والبنطلون القطن الازرق وخطين حَمر على دراعك، وشك مرتاح وابيض والنمش هنا وهناك عامل زي النجوم في صفحة السما، كنتي تقتليني من غير تفاهم.

بتمشّى على شط بين جبال النثر على شمالي وبحورالشعر على يميني.

عربيات البلدية جات النهارده لقص الأغصان الطويلة من على الأشجار. لكن المقص لابيفرق بين غصن طويل وغصن صغير.. شايف دلوقت غصن شبهى يحاول الاختباء ورا أطول الأغصان.
زنجي والسهروردي
ليس لدى «زنجى» و«السهروردي» ما يخفيانه. هما – بأريحية وطيب خاطر- كِتابٌ مفتوح! من مدونتهما، «افهم»، تعرف الأحياء التي سكنا فيها والمدارس التي التحقا بها في الطفولة والصبا.. تعرف أسماء كثير من أصدقاء الطفولة.. الكتب التي كانا يقرآنها.. الجد والجدة (للأم).. بعض الأقارب.. عمل الأم (الأم التي تقرأ لطفلها رباعيات «صلاح جاهين»، وتصحبه إلى دروس البيانو، وتغني معه ”زهرة المدائن“).. عمل الخالة (الفنانة التشكيلية) ومعاركها ضد الفساد الإداري.. بعض صديقات الأم (السيدة «منى الشبراوي» التي قرأ «زنجي» على يديها ”القفص الزجاجي“ و”الحب في زمن الكوليرا“، والسيدة المناضلة «ندى القصاص») .. وحتى بعض وقائع الحياة الأسرية والعاطفية التي قد يتحرج البعض من إعلانها على الملأ. هذا في اعتقادي دليل صحة نفسية. ألاّ يكون لديك ما تخاف من إعلانه.. هذا جميل جداً. يشدني إليهما أيضاً الحب الذي يتكلمان به عن أصدقائهما من المدونين.. «ياسر ثابت» و«ياسر نعيم» و«جيفارا» و«شريف نجيب» و«زرياب» و«سامية» و«عمرو». مع «زنجي» و«السهروردي» أحس أنني أمام شهامة ووفاء ’ولاد البلد المأصّلين‘، رغم أنهما من قراء «ماركيز» و«كويلو» و«كونديرا» و«جونتر جراس»، ويتابعان آخر الأغاني والأفلام الأجنبية! ليس في «زنجي» و«السهروردي» ذرة واحدة من الادعاء.

يبهرني فيهما أيضا اتساع الأفق، وتعدد الاهتمامات، والدأب على التحصيل: أقرأ بإعجاب النقد السينمائي الذي يكتبه «زنجي» في «كيس فيشار» ( لا أضيف جديداً إذا قلت إنها من أجمل المدونات العربية المتخصصة سواء من حيث المادة التي تقدمها أو التصميم الجرافيكي)، وأتابع على مر الأيام المختارات الشعرية التي يقدمها لنا «السهروردي» في مدونته الجميلة «سيف خشب»، وأعرف مما يكتبانه أنهما يتابعان كل جديد في الموسيقى والكتابة الأدبية.

أجمل ما في هذين الشابين الموهوبين، هو أن هذا الانفتاح على ثقافات الآخرين– بكل ما فيها من ثراء وقدرة على الإبهار وبكل ’مدفعيتها الثقيلة‘- لم يقتلعهما من جذورهما ولم يحولهما إلى أنصاف ’خواجات‘ يتأففون من أبناء شعبهم ’المتخلفين‘، أو إلى مهزومين في عقولهم يجترون مشاعر الإحباط والعجز. ما أجمل «السهروردي» وهو يقول: ”بكل عناد طفولي أقدر أقول: بكره أجمل من النهارده!“

ما أجمله وهو يستصرخ النور الذي يراه في نهاية النفق المظلم:
تبّاع على ميكروباس خط إمبابه - جيزة.. بياع جرانين في طلعت حرب..
صبي في محل كشري في العمرانية.. الأسماء كتير بس الشخص هوه هوه واحد..
نفس الصورة البشوشة والضحكة المنوّرة والقلب الأخضر والإيدين اللي حتضرب الحديد.
.....
تانى مره صرخت... ’مدد ياللى بتقرب... مداااااااااااااااااااااااااااااد‘
أبتسم لحماستهما وصخبهما حين يردان على خصومهما في الرأي، وأضحك لتعليقاتهما حين يعربدان، بخفةِ ظلٍ آسرة، على صفحات مدونة «أبو الليل» حيث البساط أحمدي ولا حواجز تعوق الانطلاق. سلاحهما جاهز دائما، وهما يتركان للخصم حق اختيار نوع السلاح: إن لزم حدود الأدب فهما مؤدبان مثله وزيادة، وإن لم يلزمها فليتحمل النتائج وهو الجاني على روحه! أجفل أحيانا لحدة النبرة. لكنني لا أخفي عليكم حبي لهذه الحماسة. أحب جدا أن يحتشد صاحب الرأي بكل كيانه للدفاع عما يعتقد انه الحق، ولا أطيق ’رخامة‘ الكتابات ’العديمة المِرِوَة‘ بالتعبير الشعبي، الفاقدة للون والطعم والرائحة. حين توقن بأن ما تدافع عنه هو الحق لا تُمسك بالعصا من المنتصف، قُل ما عندك بغير شطط ورزقك على الله. لكنني مع ذلك اعتب على «زنجي» لغته الحادة وهو يرد على «بت مصرية». كيف غاب عنك يا «زنجي» أن رجلاً مهذبا مرهف الحس مثلك كان لابد له أن يراعي انه في حضرة آنسة قد يمنعها الحياء من استخدام مثل هذه اللغة الحادة. لا أخفي عليك أيضاً، لكي أكون منصفا لك، أن تعليقاتكما– أنت و«السهروردي»- على ما كتبته الآنسة المصرية أقنعتني باتساع حصيلتكما المعرفية وبأنكما تصدران في موقفكما عن اقتناع وليس عن اندفاع أجوف. لا أنكر أنني فرحت بكما، ولكن اللغة الحادة أوشكت، للأسف، أن تغطي على قوة الحجة. القضية التي أثارتها زميلتنا «بت مصرية»– قضية الانتماء العربي لمصر- قضية شائكة ومعقدة، بحكم ظروفنا المصرية والعربية الراهنة وبحكم ما تعرضت له هذه القضية من هجوم وتشويه على مدى عقود طويلة، وكانت تحتاج، في رأيي، إلى نبرةِ أهدأ. علينا أن نقدّر ما لدى الآخرين من مخاوف وأن نلتمس لهم العذر حين يختلفون معنا، فما بالك و«بت مصرية» تتطلع، مثلك ومثلي، للنهوض بمصر- وطنها الذي تحبه. وهل نهضت مصر مرة، على امتداد تاريخها الطويل، دون أن تسارع إلى التلاحم مع محيطها الجغرافي والبشري؟ فلتعمل زميلتنا «بت مصرية»، ونحن معها، من أجل نهضة مصر وستجد مصر نفسها، بمجرد النهوض، في حضن محيطها العربي مرة أخرى! أكثر ما آلمني في تلك المناقشة الصاخبة هو نبرة التعصب الطائفي التي تبدت فيما كتبه بعض المعلقين سواء في مدونتك أو في مدونة «بت مصرية». لم يكلف هؤلاء أنفسهم مشقة الرجوع إلى مدونتك للتعرف على حقيقة موقفك. هاجموك دون أن يعرفوا أنك قلت في إحدى تدويناتك:
يمكن أن ازعم بضمير مستريح ان القصص الانجيلية أثرت بشكل فعال في تكويني. لا زلت أحب صور القديسين في الأيقونات. لازلت أتأثر لقصة صلب المسيح. لازلت اعتبره مخلص العالم من الشرور. لازلت أحبه وأحب صوره. لازلت اعشق العدرا التي أرى فيها أمي بشكل من الأشكال. مازلت لا أفوّت الفرص لزيارة الكنائس بعيدا عن المزيدات وكلام الوحدة الوطنية. لكني والأمانة لله لم أشعر يوما باختلاف بيني وبين أحد ولم يشعرني أحد بالاختلاف بيني وبينه..
قلتَ هذا الكلام بشجاعة رغم ما قد يجلبه عليك من سخط وإساءة تفسير من بعض المتعصبين على الجانب الآخر. ومع هذا هاجموك وقلبوا الموضوع إلى اشتباك طائفي! أعاني أنا أيضا من أمثال هؤلاء المعلقين. يقرأ الواحد منهم جملة أو حتى نصف جملة من كلامك ويشم، أو يتخيل انه شم، رائحة اتجاهٍ ما فيبدأ في الهجوم على ما يتصور انه أفكارك...

ما علينا! أخذني الكلام... هل أقول ل«زنجي» أيضا إنني ’مت على روحي من الضحك‘ وأنا أتعلم منه مثلاً شعبياً جديداً علىّ: ”وزغرطي ياللي منتيش غرمانه!“. أضفته، بعد إذنك، إلى حصيلتي من الأمثال الشعبية.

مع «زنجى» و«السهروردي»، وأمثالهما من شبابنا الموهوب، نشعر بأن الشتاء الطويل الذي أطبق على مصر لم يقض على كل شيء، كما قد يتوهم البعض منا في لحظات الإحباط والتحسر؛ نشعر بأننا نملك بالفعل ما نستطيع أن نبني عليه ونتسلح به ونحن نتجه صوب المستقبل من جديد.


(المقال القادم: "مولودة للحواديت وشم الورد!")

٠٣ فبراير ٢٠٠٧

إيمان ثابت.. سلام مربع للروائية الصاعدة!


كان فيه قمر كأنه فرخ الحمام
على صغره دق شعاع شق الغمام
أنا كنت حاضر قلت له ينصرك
إشحال لما حتبقى بدر التمام
عجبي !!

صلاح جاهين - الرباعيات


مصر في حارة - رواية - إيمان ثابت
يخامرني شعورٌ جارف بالاطمئنان إلى المستقبل حين أطالع ما تكتبه أصغر مدوِنة عربية، الروائية الصاعدة «إيمان ثابت» التي”تحلم بأن تكون أديبة وكاتبة تخدم مجتمعها“، والتي تبهرك براعتها في الوصف ومهارتها في اختيار التفاصيل الدالة وحسها المرهف بالألوان في الطبيعة.

تقول روائيتنا الصاعدة في وصف «مهجة» إحدى شخصيات روايتها:
كم لمح أبناء الحارة رزانتها وهدوءها ورقة ملامحها المصرية الشامية.. حيث اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من ابيها عبد الودود أفندي، في حين وهبتها والدتها عديلة عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف وشعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام.
هل انطبعت في مخيلتكم، مثلي، ملامح «مهجة»؟ هل استوت أمامكم كائنا حيا يعيش ويتنفس: سمراء، ملفوفة القد، كحيلة العينين، رزينة وهادئة وساذجة النبرة؟ هل استحضرتم من الذاكرة على الفور عيون أهل الشام الواسعة، الطويلة الأهداب؟ هل خطر لكم عندئذ، مثلي، قول الشاعر الشعبي: ”ورمش عين الحبيب يفرش على فدان“؟ هل بهرتكم، مثلي، فطنة السليقة وثراء الحصيلة اللغوية حين قرأتم ”اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من أبيها.... في حين وهبتها والدتها عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف....“، هل لاحظتم البراعة في التفرقة بين الفعل اللازم ”اكتسب“ (”لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت“) والفعل المتعدي ”وهب“ الذي ينم عن الكرم والعطاء (”سبحان الوهاب“)؟ وهل شدكم مثلي هذا التشبيه الجميل: ”شعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام“. أسعد الله أحلامك وأيامك يا «إيمان»!

في وصفها لشخصية أخرى تكتب «إيمان»:
يجلس أبوه العجوز على كرسي بجواره، حيث لا يكف عن مطالعة الجرائد ومتابعة الأحداث المنشورة كأنه يبحث عن خبرٍ ما ينتظره.. لكن أذنيه دائما مع الابن بصوته الرخيم كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة.. فتسمع الأب يقول بإعجاب ’الله‘ كلما أطربه صوت ابنه الشجي.
ألا تبهركم هذه اللقطات السريعة- لا كلمة واحدة زائدة!- التي تصّور بها «إيمان» كل العطاء المجاني لعاطفة الأبوة، جمال هذه العاطفة ”حتى في الشقا والفقر“ كما يقول «فؤاد حداد»؟: صوت الابن في مسمع الأب ”كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة“! ألا تحسون بهذا التشبيه وكأنه يأتي من أعماق هذا الرجل الفقير وليس من الراوي، بأنه ’لابس الشخصية‘ تماما كما يقال في التعبير الشعبي؟

تصعد «إيمان» الآن درجَ العمر ما بين الطفولة والصبا. لا عجب أن تجد في روايتها الجميلة لوحاتٍ تُذكّركَ بمهرجان الألوان والكائنات في رسوم الأطفال التي نراها نحن الكبار فنتحسر على "ما صنعته الأيام في نفوسنا". اقرءوا معي هذا الوصف في مستهل الرواية:
تشرق الشمس بنور وديع وسط السماء الزرقاء الصافية... يتسرب إلى الآذان تغريد البلابل والعصافير في أنحاء الحارة الصغيرة.. تفوح الرائحة الزهرية العطرة التي تولد من رحم الربيع الدافئ.. تغفو على الأرض ظلال الأشجار المورقة.

أرصفة الحارة الضيقة النحيفة تباع عليها الأحذية الرخيصة الملونة كما تستقر عليها محال الجزار والنجار والبقال والتاجر... يلهو الأطفال تحت أشجار التوت والتفاح...يركضون ويتنقلون عبر فروعها البنية.. البسمة تشرق كالشمس على وجوههم ووجوههن، المرح يملأ قلوبهم والبراءة عنوان قلوبهن.
هل رأيتم مهرجان الألوان والكائنات، كيف يكون الوصف متعة للعيون: سماء وزرقة وشمس ونور ”وديع“ وربيع وبلابل وعصافير وأريج زهور وأطفال وأشجار توت وتفاح لها ظلال ”تغفو على الأرض“ و أغصان بنية وأحذية ملونة و... أرصفة ”نحيفة“! هل شعرتم، مثلي، أيضا بحساسيتها المرهفة بموسيقى اللغة، ب’البنية الصوتية‘ للنص كما أحب أن أسميها، وأهميتها في إنتاج الدلالة يستوي في ذلك أن يكون النص شعراً أو نثراً؟

هل لي بعد ذلك أن أتجاسر فأطلب من «إيمان» أن تعطي اهتماما وعناية أكبر للحوار فيما ستكتبه- بإذن الله- في مقبل الأيام. كتابة الحوار بالفصحى تحتاج إلى جهد كبير ومران طويل (مازلت أضحك كلما ذكرت السيدة «سنية عفيفى»، في رواية «زقاق المدق»،إحدى الروايات الأولى لـ«نجيب محفوظ»، وهي تنظر لوجهها في المرآة وتقول: ”جميلٌ وأيم الحقِ جميل“!). إذا كان لي أن أنصحكِ فإنني أهمس في أذنك: ما دمتِ تؤثرين الفصحى لغةً للحوار، وهذا حقك، حاولي أن تتخيلي الحوار أولاً بالعامية ثم ترجميه بعد ذلك إلى أقرب التراكيب الفصحى إلى العامية. الرواية نوع أدبي يتميز بتعدد اللغات واللهجات، فاختاري لكل شخصية مستوى التعبير اللغوي الذي يناسبها ويميزها عن الشخصيات الأخرى. لا شك عندي أن هذا الهم يشغلك، ولا شك أيضاً أن الأمر يحتاج إلى مران طويل (قارني مثلا لغةَ الحوار عند «نجيب محفوظ» في رواياته الأولى بلغة الحوار في أعماله كلما تقدمت به الخبرة وطال المران). هل تجاوزت حدودي، وهل اشقُّ عليكِ بهذه النصيحة؟ هذا من باب العشم ولأنني واثق ’إنك قدها وقدود كمان‘.

اختارت «إيمان»- كما عرفت من مدونة أبيها «ياسر ثابت»- «نجيب محفوظ» ليكون قدوتها في الكتابة الروائية. اختارت- و’يا زين ما اختارت‘- أن تصعد هذا المرتقى الصعب وأن تنهل من نبع الأستاذ الأكبر للرواية العربية. «نجيب محفوظ» لم يتجاوزه أحد حتى الآن. لم يُخلص أحدٌ لعمله كما أخلص، ولم يظهر حتى الآن من له موهبة تساوق ولو من بعيد موهبته السامقة الوارفة الظلال. «نجيب محفوظ» هو، للروائيين الشباب، ”البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ“. لا تكاد تجد تقنية واحدة من تقنيات السرد الروائي لم يستخدمها «نجيب محفوظ»!

إيمان ثابت
إيمان ثابت
اختار لها والدها اسم ”إيمان“ لأنه ”اسم يحمل قدرا من الثقة والوداعة والسكينة“.

اسمها ”إيمان ثابت“ يتكون في سمعي، شأن اسم ”نجيب محفوظ“، من صفةٍ وموصوف.

اسم مدونتها: ”وجوه

«إيمان»- الروائية التي أدعوكم إلى قراءة عملها الأول- في الثانية عشرة من العمر!

ســـلام مربع للروائيـــة الصـــاعدة !



(المقال القادم: "زنجي والسهروردي!")