٠٣ فبراير ٢٠٠٧

إيمان ثابت.. سلام مربع للروائية الصاعدة!


كان فيه قمر كأنه فرخ الحمام
على صغره دق شعاع شق الغمام
أنا كنت حاضر قلت له ينصرك
إشحال لما حتبقى بدر التمام
عجبي !!

صلاح جاهين - الرباعيات


مصر في حارة - رواية - إيمان ثابت
يخامرني شعورٌ جارف بالاطمئنان إلى المستقبل حين أطالع ما تكتبه أصغر مدوِنة عربية، الروائية الصاعدة «إيمان ثابت» التي”تحلم بأن تكون أديبة وكاتبة تخدم مجتمعها“، والتي تبهرك براعتها في الوصف ومهارتها في اختيار التفاصيل الدالة وحسها المرهف بالألوان في الطبيعة.

تقول روائيتنا الصاعدة في وصف «مهجة» إحدى شخصيات روايتها:
كم لمح أبناء الحارة رزانتها وهدوءها ورقة ملامحها المصرية الشامية.. حيث اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من ابيها عبد الودود أفندي، في حين وهبتها والدتها عديلة عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف وشعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام.
هل انطبعت في مخيلتكم، مثلي، ملامح «مهجة»؟ هل استوت أمامكم كائنا حيا يعيش ويتنفس: سمراء، ملفوفة القد، كحيلة العينين، رزينة وهادئة وساذجة النبرة؟ هل استحضرتم من الذاكرة على الفور عيون أهل الشام الواسعة، الطويلة الأهداب؟ هل خطر لكم عندئذ، مثلي، قول الشاعر الشعبي: ”ورمش عين الحبيب يفرش على فدان“؟ هل بهرتكم، مثلي، فطنة السليقة وثراء الحصيلة اللغوية حين قرأتم ”اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من أبيها.... في حين وهبتها والدتها عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف....“، هل لاحظتم البراعة في التفرقة بين الفعل اللازم ”اكتسب“ (”لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت“) والفعل المتعدي ”وهب“ الذي ينم عن الكرم والعطاء (”سبحان الوهاب“)؟ وهل شدكم مثلي هذا التشبيه الجميل: ”شعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر الأحلام“. أسعد الله أحلامك وأيامك يا «إيمان»!

في وصفها لشخصية أخرى تكتب «إيمان»:
يجلس أبوه العجوز على كرسي بجواره، حيث لا يكف عن مطالعة الجرائد ومتابعة الأحداث المنشورة كأنه يبحث عن خبرٍ ما ينتظره.. لكن أذنيه دائما مع الابن بصوته الرخيم كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة.. فتسمع الأب يقول بإعجاب ’الله‘ كلما أطربه صوت ابنه الشجي.
ألا تبهركم هذه اللقطات السريعة- لا كلمة واحدة زائدة!- التي تصّور بها «إيمان» كل العطاء المجاني لعاطفة الأبوة، جمال هذه العاطفة ”حتى في الشقا والفقر“ كما يقول «فؤاد حداد»؟: صوت الابن في مسمع الأب ”كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة“! ألا تحسون بهذا التشبيه وكأنه يأتي من أعماق هذا الرجل الفقير وليس من الراوي، بأنه ’لابس الشخصية‘ تماما كما يقال في التعبير الشعبي؟

تصعد «إيمان» الآن درجَ العمر ما بين الطفولة والصبا. لا عجب أن تجد في روايتها الجميلة لوحاتٍ تُذكّركَ بمهرجان الألوان والكائنات في رسوم الأطفال التي نراها نحن الكبار فنتحسر على "ما صنعته الأيام في نفوسنا". اقرءوا معي هذا الوصف في مستهل الرواية:
تشرق الشمس بنور وديع وسط السماء الزرقاء الصافية... يتسرب إلى الآذان تغريد البلابل والعصافير في أنحاء الحارة الصغيرة.. تفوح الرائحة الزهرية العطرة التي تولد من رحم الربيع الدافئ.. تغفو على الأرض ظلال الأشجار المورقة.

أرصفة الحارة الضيقة النحيفة تباع عليها الأحذية الرخيصة الملونة كما تستقر عليها محال الجزار والنجار والبقال والتاجر... يلهو الأطفال تحت أشجار التوت والتفاح...يركضون ويتنقلون عبر فروعها البنية.. البسمة تشرق كالشمس على وجوههم ووجوههن، المرح يملأ قلوبهم والبراءة عنوان قلوبهن.
هل رأيتم مهرجان الألوان والكائنات، كيف يكون الوصف متعة للعيون: سماء وزرقة وشمس ونور ”وديع“ وربيع وبلابل وعصافير وأريج زهور وأطفال وأشجار توت وتفاح لها ظلال ”تغفو على الأرض“ و أغصان بنية وأحذية ملونة و... أرصفة ”نحيفة“! هل شعرتم، مثلي، أيضا بحساسيتها المرهفة بموسيقى اللغة، ب’البنية الصوتية‘ للنص كما أحب أن أسميها، وأهميتها في إنتاج الدلالة يستوي في ذلك أن يكون النص شعراً أو نثراً؟

هل لي بعد ذلك أن أتجاسر فأطلب من «إيمان» أن تعطي اهتماما وعناية أكبر للحوار فيما ستكتبه- بإذن الله- في مقبل الأيام. كتابة الحوار بالفصحى تحتاج إلى جهد كبير ومران طويل (مازلت أضحك كلما ذكرت السيدة «سنية عفيفى»، في رواية «زقاق المدق»،إحدى الروايات الأولى لـ«نجيب محفوظ»، وهي تنظر لوجهها في المرآة وتقول: ”جميلٌ وأيم الحقِ جميل“!). إذا كان لي أن أنصحكِ فإنني أهمس في أذنك: ما دمتِ تؤثرين الفصحى لغةً للحوار، وهذا حقك، حاولي أن تتخيلي الحوار أولاً بالعامية ثم ترجميه بعد ذلك إلى أقرب التراكيب الفصحى إلى العامية. الرواية نوع أدبي يتميز بتعدد اللغات واللهجات، فاختاري لكل شخصية مستوى التعبير اللغوي الذي يناسبها ويميزها عن الشخصيات الأخرى. لا شك عندي أن هذا الهم يشغلك، ولا شك أيضاً أن الأمر يحتاج إلى مران طويل (قارني مثلا لغةَ الحوار عند «نجيب محفوظ» في رواياته الأولى بلغة الحوار في أعماله كلما تقدمت به الخبرة وطال المران). هل تجاوزت حدودي، وهل اشقُّ عليكِ بهذه النصيحة؟ هذا من باب العشم ولأنني واثق ’إنك قدها وقدود كمان‘.

اختارت «إيمان»- كما عرفت من مدونة أبيها «ياسر ثابت»- «نجيب محفوظ» ليكون قدوتها في الكتابة الروائية. اختارت- و’يا زين ما اختارت‘- أن تصعد هذا المرتقى الصعب وأن تنهل من نبع الأستاذ الأكبر للرواية العربية. «نجيب محفوظ» لم يتجاوزه أحد حتى الآن. لم يُخلص أحدٌ لعمله كما أخلص، ولم يظهر حتى الآن من له موهبة تساوق ولو من بعيد موهبته السامقة الوارفة الظلال. «نجيب محفوظ» هو، للروائيين الشباب، ”البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ“. لا تكاد تجد تقنية واحدة من تقنيات السرد الروائي لم يستخدمها «نجيب محفوظ»!

إيمان ثابت
إيمان ثابت
اختار لها والدها اسم ”إيمان“ لأنه ”اسم يحمل قدرا من الثقة والوداعة والسكينة“.

اسمها ”إيمان ثابت“ يتكون في سمعي، شأن اسم ”نجيب محفوظ“، من صفةٍ وموصوف.

اسم مدونتها: ”وجوه

«إيمان»- الروائية التي أدعوكم إلى قراءة عملها الأول- في الثانية عشرة من العمر!

ســـلام مربع للروائيـــة الصـــاعدة !



(المقال القادم: "زنجي والسهروردي!")

هناك ٢١ تعليقًا:

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. بسم الله ما شاء الله، ربنا يحرسها ويبارك فيها..

    يا بنت الايه يا مصر، مبتفضيش ابداً، هيفضل فيكي ناس لحد يوم القيامة :-)

    ردحذف
  3. يمكن تكون أكتر حاجة محتاجينها في الزمن ده إن حد يشاورلنا على الحاجة الحلوة ويقول أهِه! للأسف الناس مشاكلها كتير كتير واليأس والضجر والتشاؤم هي المشاعر الغالبة لدرجة ان الواحد ممكن ما ياخدش باله من الحاجات الجميلة اللي حواليه.

    أشكرك يا عبد الحق لإنك فكرتني إن "حاجات كتير بتموت في ليل الشتا، لكن حاجات أكتر بترفض تموت". الواحد ما كانش يتخيل أبداً إن لسه فيه حد بيهتم الاهتمام ده بتفاصيل اللغة وجمالها. ناهيك عن إنها بنت لسه عندها اتناشر سنة! إشحال لما حتبقى بدر التمام!؟ حاجة فعلاً تِفرِح!

    سلام مربع يا إيمان! ربنا يسعدك زي ما أسعدتينا

    ردحذف
  4. ماشاء الله .... حاجه تفرح ...
    شكراً يا عبد الحق ... شكراُ جزيلاً

    ردحذف
  5. فاجأتني تلك الهدية الرائعة التي جعلتني أكاد أطير من الفرح
    بجد.. تاهت مني الكلمات لأنني الآن في ظهر اليوم الجمعة الموافق 9 فبراير أعيش لحظة سعادة لا توصف
    شكراً جزيلاً لك على هذا الاهتمام وهذه الرعاية..لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن شخص مثل حضرتك سيهتم كل هذا الاهتمام بمحاولتي المتواضعة في مجال الكتابة الروائية
    ملاحظاتك أكثر من مفيدة خاصة موضوع أسلوب الحوار.. سأضع هذا في ذهني دائماً
    الشكر ليس كافياً.. لكنني أرجو أن تقبلني في منزلة ابنتك وألا تبخل علي بأي توجيه

    ردحذف
  6. غير معرف١٣/٥/٠٧ ١٨:٤٧

    مساء الخير للشارع كله
    يا ترى قلت لرحاب حواديت
    كل سنه وانتي طيبه

    أبو علي( مدونة فض فض) انتظروها

    ردحذف
  7. جميل جدا , وابداع واقناع من بدرى

    وطول ما فى اهتمام من البيت وايمان بالموهبه

    ان شاء الله هنشوفها نجم ساطع فى سماء الروايه العربيه

    -------------------------
    بس ليا نصيحه , وان كنت لست أهلا لها

    اعتقد ان عليها الا تقع فى اخطاء اخرين

    لازم يبئى ليها اسلوب خاص

    لانى حسيت بانها ترتدى عباءة نجيب محفوظ

    ردحذف