تساؤلات مواطن مصري
لم أخرج يوم الاستفتاء لأقول نعم أو لا، ولم أذهب إلى نقابة الصحافيين أو ضريح سعد لأهتف "كفاية" أو "مش كفاية". استيقظت مبكرا وارتديت ملابسي بسرعة لألحق بعملي، فتحت باب المنزل والتقطت جريدة الأهرام في طريقي للنزول، قرأت "تقرر منع المسيرات والمظاهرات ... كما تم تأمين الميادين العامة لمنع المساس بسلامتها وأن أجهزة الأمن سوف تتصدي بكل قوة وبكل حسم لأي شخص يحاول أن يمس أمن وسلامة هذا الوطن".
في الشارع أوقفت تاكسيا: "جاردن سيتي؟" فأشار لي بالركوب. ركبت بجواره فتطلع إليّ في ريبة وهو ينطلق بالسيارة "فين في جاردن سيتي؟". فأخبرته. فقال بصوت عال وبلهجة شبه محذرة "يعني مالناش دعوة بالاستفتا؟" فقلت مبتسما: "أنا رايح الشغل". قال لي بارتياح مشوب بالحذر "آه .. إحنا مش فاضيين". ولم أفهم من يقصد ب "إحنا" بالضبط ولكني لم أسأل.
قضيت يوما عاديا في العمل ومارست مهامي اليومية ككل يوم: محاولات إنجاز العمل بالالتفاف حول المشكلات والإفلات من المكائد اليومية المعتادة، الاطمئنان، حينما تتاح الفرصة، على أسرتي والعالم، والتأمل في بعض اللحظات النادرة في بعض أفكاري ومشكلاتي الخاصة.
في العمل، أتابع الأخبار على الإنترنت، وفي المنزل، حين أعود، أتابعها على الفضائيات وصفحات الجرائد، وفي المساء أتحدث فيما يحدث مع زوجتي وبعض الأقارب والزملاء والأصدقاء .. فعلت اليوم كل هذا ومثل كل يوم لم أجد ما يسرني.
شعرت بالألم والمهانة والقرف حينما وصلتني أخبار التحرش بالنساء في المظاهرات على الملأ، الألم والمهانة والقرف وليس الدهشة؛ فقد يكون أسلوب التخويف والترهيب والإهانة جديدا ومستوى الحقارة والسفالة تدنى، ولكن هذا وذاك متسقان مع أفعال وتاريخ أتباع نظام فاسد وغبي ومطلق اليد، ومع همجية تزداد يوما بعد يوم داخل مجتمعنا يدعمها الفساد والفقر والجهل.
لم تدهشني سفالة بلطجية الحزب الوطني بينما أدهشتني كل الأصوات المرتفعة اندهاشا مما جرى. كأنهم لا يعرفون ما يواجهون، وكأن ما حدث ليس تكريسا لأعوام طويلة من الهوان وكأن أناسا لم تضرب وتهان وتقتل في المظاهرات وغير المظاهرات من قبل. أما حين يبالغون في وصف ما حدث ويقولون "نكسة 76"1 ويصبغون المظاهرات المعارضة بصبغه قومية وطنية عامة وكأنها مظاهرات ثورة 1919 أو حتى مظاهرات الجلاء في 1946 فيتملكني إحساس بالتقزز.
حين لا نُسمي الأشياء بأسمائها ونبالغ في تصوير معانيها ودلالتها نفقد أي مصداقية. حينما نقارن بين الاستفتاء والتعديل الدستوري وبين هزيمة 67 وحين نقول أن ما فعله بلطجية الحزب الحاكم "لم يحدث حتى في أيام الهكسوس أو حكم المماليك"2 فنحن ننسف تاريخنا ونسخف كل تضحياتنا ومآسينا وإنجازاتنا على السواء. حين نقول "الأربعاء الدامي"3 ولم يسقط أي قتلى ولم نرَ الشوارع مخضبة بالدماء فنحن نكذب على أنفسنا وعلى الناس. حين نقول أن ما فعله البلطجية جريمة حرب4 وندعو لمحاكمتهم أمام محكمة العدل الدولية5 فهذا جهل منا وتجهيل للناس. حين نقول على مظاهرات حجمها بالمئات: كبيرة وحاشدة وغيرت نبض الشارع6 فنحن إما سذج أو مغرضين. حين يُنصِّب البعض من المعارضة - من كفاية أو غيرها - أنفسهم أوصياء على المصريين ويقولون أنهم يعبرون عن غالبيتهم وعن ضمير هذا الوطن7 ويتبنى مؤيدوها فوق ذلك منطق "إما معنا أو علينا" ويكفرون بالتالي كل من يختلف معهم فلا أكاد أرى حينئذ فرقا بينهم وبين الحكومة وحزبها ومنتفعيها الذين مللنا تحدثهم باسم الأغلبية الصامتة وتعبيرهم عن جموع الشعب المصري ومعرفتهم بمصالحه الحقيقية ولا أرى فرقا حين يتبادل الطرفان تهمة العمالة وينتقد كل منهما الآخر لتبعيته لأمريكا أو لأي أطراف خارجية أخرى ثم ينسق كل منهما مع هذه الأطراف ويحاول الاستفادة منها بكل الأشكال الممكنة ويتعلل بالبرجماتية (العملية) التي يُحرّمها على الآخر. أما حين يُسمي البعض التنسيق مع قوى خارجية تساند إسرائيل وتحتل العراق "شطارة" و"كل واحد وشطارته" ويهزأ من أي وكل مبدأ أو رأي معارض له ويسميها "شعارات" مثالية "شبعنا منها" و"جابتنا ورا" فلا أجد ما أقوله ...
لست مُنَظِرّاً سياسياً ولا أزعم أني أُمثل لا الأغلبية ولا الأقلية، صامتة كانت أيهما أو صارخة، وأنفر من كل من يفعل ذلك بلا دليل. لكني لا أرى في أمريكا مُخَلِصّا، ولا أرى أنه من الحكمة اللعب والمناورة معها كيفما اتفق (كيف الغاوي مع الحريف8) ولا حتى على أساس المقولة الشائعة "أي حاجة أحسن من اللي إحنا فيه" لأنني - وليس هذا دفاعا عن الوضع الحالي - أعرف أنه من الممكن أن يكون هناك ما هو أسوأ، وتُقبضني أصوات تدعو للتحالف مع الشيطان للخلاص من الوضع الحالي وترى في غزو العراق تحريرا ونموذجا يحتذى، وأصوات ترى أنه لا مناص منه فترحب به على مضض، وأخرى تجده ظرفا تاريخيا إيجابيا وتدعو لاستغلال الضغط الأمريكي لصالحها! ولا أرى فرقا بين كل هؤلاء وبين حكامنا المهزومين الخاضعين.
وأكثر تلك الأصوات مناورة، تلك التي تصف نفسها بالعقلانية وتدافع عن موقفها الداعي للتعاون مع أمريكا واستغلال ضغطها على النظام بأنها ليست تابعة ولا عميلة لأمريكا، ولكن هذه سياسة والسياسة مصالح، وليس عيبا لو اتفقت مصالحهم مع مصالحنا، فأمريكا عندها "أخطاء" نعم ولكن عندما تفعل "صوابا" لا يجب أن نصم آذاننا عنه .. يجب ألا نَتَحَجَّر وأن نكون عمليين. وتسأل عن هذا التوافق في المصالح، فيجيبونك بأن نشر الديموقراطية في بلداننا مصلحة مشتركة، لأن أمريكا اكتشفت أن دعمها للأنظمة الديكتاتورية في المنطقة عاد عليها بويلات الإرهاب، وأن الدول الديموقراطية – التي تتشارك معها في القيم - تكون أكثر استقرارا وسلما وأكثر كفاءة اقتصادية. وفي النهاية يسألونك: إذا كانت مصلحة أمريكا تتجلى في تأمين البترول وضمان أمن إسرائيل، وأنظمتنا الحاكمة مستسلمة لها تماما ولا تفعل إلا ذلك، فلماذا تضغط وتطالب بإصلاح ديموقراطي إلا إذا كان ذلك لغرض آخر كدرء خطر الإرهاب عنها؟9
وحين تقول لهم: نعم أمريكا تبحث عن مصالحها ولكني أراها تتعارض مع مصالحنا، ولا أرى أنه من مصلحتها أن يكون لدينا ديموقراطية حقيقية قد تؤدي إلى نشوء نظام وطني تتعارض مصالحه معها ويكون له رأي معارض في سياستها الاقتصادية والاجتماعية ويعارض تدخلهم في الشئون المصرية والإقليمية. وكل ما أراه هو محاولة للحيول دون ذلك. فأمريكا تعرف أن النظام الحالي مهزوز ومهلهل وأن مبارك لن يعيش للأبد، وبالتالي فهي تُحَضِّر للبديل، وتحاول أن تتواجد بشكل مكثف في الساحة وتفتح قنوات مع كل من تستطيع لتؤمن وصول قوى مؤيدة لها للسلطة تؤمِّن مصالحها في مصر والمنطقة، ولتُجْهِض، بمحاولتها مساندة تغيير صوري وسطحي للقوانين والوجوه، أي احتمال لتحرك شعبي واسع يطالب بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية جذرية. ومن السذاجة أن نظن أن أمريكا في سبيل تحقيق جزء من مصالحها بنشر الديموقراطية لدرء خطر الإرهاب - لو سلمنا بذلك جدلا – ستقبل بأن تُعرِّض جميع مصالحها الأخرى في مصر والمنطقة للخطر. حين تقول ذلك يصمون آذانهم ويتهمونك بالجهل و/ أو إتباع نظرية المؤامرة!10
سمعت هذه الأصوات كثيرا من داخل "كفاية" - التي أعرف أنها خليط من تيارات مختلفة - ومن مؤيديها، فدفعتني إلى التشكك والحذر وأثارت داخلي أسئلة كثيرة حول طبيعة القوى التي تتحرك داخلها وأهدافها، وجعلتني أرى كيف أن بجانب القوى حسنة النية (من بعض المثقفين والشباب المتحمس) هناك قوى عالية الصوت تغازل أمريكا وتقدم نفسها لها كبديل - غير محروق - للنظام الحالي، يستطيع خدمة مصالحها بصورة أفضل، وقوى أخرى كثيرة تبحث عن مصالحها الذاتية ولا يهمها شركاؤها في الوطن، وتعقد التحالفات التكتيكية الوقتية فقط في محاولة لانتهاز "الظرف التاريخي". وتساءلت عن جدوى التحالف بين هذه القوى المتضادة المصالح (على الأقل ظاهريا). وكيف يمكن أن يشكل تحالف بين النُخب، ليست له قاعدة جماهيرية، قوة ضاغطة (اللهم إلا في حالة الإخوان المسلمين الذين يتمتعون بقاعدة شعبية لا بأس بها وإن كنا لا نستطيع، في الوقت نفسه، حسابهم في صف "كفاية").
ولا يهتم الكثير منا - لاسيما في غمرة الحماس - بالتدقيق والبحث عن خلفيات الأمور. خاصة لو بدا الأمر بريئا وبسيطا من الخارج ويدق على الوتر الحساس. وقد يجرفنا حماسنا الزائد دون تدقيق للانسياق إلى الوقوف في معسكرات لم نخترها أو إلى أن نُحسب على قوى لا نريدها.11
فعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى المظاهرات الأخيرة التي قام بها أنصار كفاية. أليس من المشروع أن أتساءل لماذا اختيار "ضريح سعد" و"بيت الأمة"؟ ولماذا يقترح البعض الاحتفال بذكرى "مصطفى النحاس"؟ نعم هي رموز "وطنية" نحترمها ولكن قد نختلف معها أيضا ومع أنصارها من "الليبراليين" السابقين والحاليين. أفكار كإشعال الشموع (أو "كانديل فيجيل" كما سمعتها كثيرا من مناصري كفاية) و"كنس السيدة" تبدو كفرقعات إعلامية أكثر منها أي شيء آخر، وتدعو للتساؤل حول من تخاطب: المصريين؟ أم الإعلام والغرب؟ (وفكرة "كنس السيدة"، هي في رأيي، الوجه الآخر للـ "كانديل فيجيل" المستوردة، ونابع من اهتمام "سياحي" بالتراث الشعبي، تماما كاهتمام الكثير من الفرق الفنية به ومحاولاتهم تقديمه بصورة "أوريجنال" تعجب السياح وممولي تلك الفرق الغربيين، ولا يهمها في الأساس مخاطبة المصريين العاديين الذين هم في أحسن الأحوال مادة للزينة أو للفرجة فقط)12.
ولماذا شعار "الإصلاح السياسي أولا"؟ وهل هو المطلب الذي ينادي به ويريده المصريون؟ أم أنه المشترك بين مطالب النخب المصرية والمطالب الأمريكية وبالتالي هو المناسب الآن؟ وما قيمة إصلاح سياسي يأتي من القمة وغير مُؤسس على شرعية جديدة؟ هل هي محاولة لإعادة تجربة الوفد في أوائل القرن العشرين؟ وهل المعطيات الآن هي نفس المعطيات في أوائل القرن الماضي؟ وهل تستطيع النخبة تكرار تجربة الوفد وهل يريد المصريون تكرارها؟؟
أسئلة كثيرة لا يهتم بها الكثيرون في غمرة الحماس ولا يدققون في معناها، ولا يهتمون بمعنى ودلالات أشياء أخرى صغيرة فيتبنى أحد المتحمسين - من أصحاب الجرائد الالكترونية على الانترنت - استخدام علم مصر قبل الثورة في مظاهرة "السيدة" - بكل ما يعنيه ذلك - بحجة أنه مستخدم في الموالد والاحتفالات الشعبية13، وفي الوقت نفسه لا يعرف ولا يدقق في مغزى النصب التذكاري أمام مدخل جامعة القاهرة فيسميه "الخازوق الغريب" ولا يدري أنه تخليد لذكرى شهداء الطلبة الذين ماتوا في 1935 دفاعا عن الاستقلال والدستور14. وليس عيبا أن نجهل بعض الأشياء فليس هناك من يعرف كل شيء. ولكن العيب أن نستخف بالأشياء دون بحث وتأني.
هل الحل إذن أن نسكت؟ هل نقبع في بيوتنا في انتظار الفرج؟ أنا لم أقل ذلك ولا أُنَظِّرْ للكمون ولا للثورة. ما أريده هو أولا التيقظ والتنبه إلى أنه للتغيير ثمنين: ثمن شخصي يدفعه كل منا بإرادته إذا شارك فيه، ومن حق أي منا رفض دفعه إذا رأى نتيجته العودة خطوات للخلف أو الوقوف محلك سر، وثمن عام -ندفعه جميعا شئنا أم أبينا- أرجو أن يكون كل من يدعو للتغيير يحسب له حساب ويخطط لتدارك آثاره15. وثانيا التدقيق فيما سنحصل عليه مقابل هذا الثمن.
يجب أن نحكم على القوى المطالبة بالتغيير على أساس أفعالها قبل أقوالها، وعلى أساس برنامجها الشامل وليس على رأيها في الإصلاح السياسي فقط. يجب أن نعرف ماذا نريد من الإصلاح وماذا نريد بعد تحققه. لا أعتقد أن المهم أن يبقى النظام الحالي أو يذهب. المهم هو ماذا سيتغير إذا ذهب وماذا سنكسب إذا بقي. يهمني أن أسأل ما هو البديل، أن أعرف ماذا سنفعل في البطالة والأجور والإسكان والمعاشات والتأمين الصحي والتعليم، وكيف سنحارب الفساد، وكيف سنطور اقتصادنا ونزيد دخلنا القومي، وكيف سنواجه التهديدات الخارجية ونحمي أرضنا وإخواننا. يهمني أن أسأل "كيف" قبل أن أقول "كفاية".
"... فما إرتكبه رجال الشرطة يوم 25 مايو و رأه الجميع و ما يرتكبوه كل يوم في حق المواطنين هي جرائم منظمة مع سبق الإصرار توضع في مصاف جرائم الحرب."
http://wa7damasrya.blogspot.com/2005/06/blog-post_10.html
"... وقال رئيس حركة كفاية جورج إسحاق إن الحركة تريد محاكمة المسؤولين داخل الحزب الديمقراطي الحاكم، مضيفا أنه إذا لم تحقق السلطات العدالة فإنها ستلجأ إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي."
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/AF9B292F-F176-41CE-9462-CF2730A25A9D.htm
"... واليوم بعد هذا الحضور الكبير أستطيع أن أقول ان كفاية أثبتت بجدارة أنها حركة شعبية مصرية 100% حركت و غيرت نبض الشارع و حتى انني أصبحت لا اعرف أيهما أقول هل أقول أن المصريين في كفاية أم ان كفاية هي التي في المصريين."
http://wa7damasrya.blogspot.com/2005/06/blog-post_08.html
"الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) تعبر عن ضمير هذا الوطن، وتمثل أشواق الشعب المصري للحرية والتغيير الديموقراطي السلمي، والحياة بكرامة محررة من القهر والقمع والاستبداد وإهدار حقوقه وثرواته."
http://harakamasria.org/node/1953
اقرأ أيضا مقال جلال أمين في الحياة بتاريخ 18 يونيو 2005: "الإصلاح موضوع كلام الجميع في عالمنا العربي ... فمن المسؤول عما نحن فيه؟"
http://www.daralhayat.com/opinion/06-2005/Item-20050617-8b3fccd3-c0a8-10ed-00d4-1f0538e11c18/story.html
http://www.manalaa.net/sayda_black_wed
شاهد الصورة وتحتها التعليق: "خازوق formed a circle around the weird" (كونا دائرة حول الخازوق الغريب)
http://www.manalaa.net/small_protest_at_cairo_university
إذا أردت مناقشة الأفكار الواردة في المقال، أو إذا كان لديك أسئلة إضافية أو إجابات. يمكنك أن تفعل ذلك هنا:
ردحذفhttp://hewarat.blogspot.com
إقرأ أيضا مقال جلال أمين في الحياة بتاريخ 28 يونيو 2005:
ردحذفمصر ومسلسل تظاهرات الديموقراطية وزيارة كونداليزا رايس