٢٥ يناير ٢٠٠٧

المدونات: عود على بدء

نشرت منذ عام تقريبا، في 21 فبراير 2006 على وجه التحديد، مقالاً في «الشارع الأدبي» تحت عنوان "أقرأ وأتذكر وأقول"، قلت فيه: "تصادفني في زياراتي للمدونات أصوات تمس أوتاراً في نفسي. أتوقف عندها وأعود إليها كثيراً". ووعدتكم حينذاك بالكتابة عن هذه الأصوات. وبدأت بالفعل بمقال عن مدونة «رنك» تحت عنوان "تبارك الوهاب ونعم الهبة!"

حالت أمور كثيرة بيني وبين مواصلة ما بدأت فيه: ظروفي الصحية أولا، ثم ضيق الوقت (أكل العيش مر!)، وربما أيضا الانشغال بالأحداث الكبيرة التي شهدها العام الماضي وشعوري أحيانا بأنها أفصح من أي كلام.

وهأنذا أعود لأبر بوعدي، ولكن مع تغيير طفيف في خطتي الأصلية. قلت في مقالي السابق: "لا أكتب ابتغاء مرضاة أحد ولا سعيا إلى إغضاب أحد". وأنا عند موقفي. لكنني سأوسع هذه المرة دائرة المدونين الذين أنوي الحديث عنهم لتشمل بعض من أختلف معهم في الرأي. كل الذي أرجوه من هؤلاء هو ألاّ يأخذوا كلامي على محمل التجريح الشخصي. فأنا انتقد أفكاراً ومواقف لا تتجسد في أشخاص معينين بالذات. لا أتهم أحدا، وليس بيني وليس بيني وبين أحد من هؤلاء الذين انتقدهم خصومة شخصية. ولن أتحدث، كما سترون، إلا عن زملاء أتصور أن بيني وبينهم، رغم اختلاف الرأي، لغة مشتركة بل ونقاط اتفاق. هناك آخرون لا تجمعني بهم لغة مشتركة ولا أجد جدوى من الحوار معهم. وهؤلاء لن اشغل نفسي بهم.

قلت أيضا في مقالي السابق: لا تربطني معرفة شخصية بمن أنوي الحديث عنهم. وتقتضيني الأمانة أن أقول إنني سأسمح لنفسي باستثناء واحد هو زميلتنا المدونة «سامية جاهين».

سأبدأ هذه المرة بمقدمة طويلة إلى حدٍ ما، آمل ألاّ تكون ثقيلة الظل، عن مدى أهمية المدونات وحدود دورها في مجتمعنا المصري. هذا رأي شخصي قابل للمناقشة بلا جدال. أرجو ألاّ يُغضب أحدا!

*********
منذ بدأت في متابعة ما يكتبه المدونون المصريون وأنا مشغول بسؤال لم أجد إجابة شافية عليه حتى الآن: إلى أي مدى يمكن القول بأن هؤلاء يعبّرون عن الرأي العام المصري؟

أدرك بطبيعة الحال أن المدونين، في ظروفنا المصرية، لا يمكن اعتبارهم ’عينة ممثلة‘ للمجتمع المصري، أو حتى للشباب المصري، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح في علم الإحصاء أو في الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي. فالتدوين يحتاج إلى قدرٍ من اليُسر المالي والمعيشي، يُسر يوفر لصاحبه أولاً وقت الفراغ اللازم لممارسة التدوين وتعلم وتطوير المهارات المطلوبة، ويتيح له القدرة على شراء الأجهزة وسداد فواتير التليفون أو الاشتراك في شبكات الاتصال السريع بالإنترنت، أو حتى ممارسة التدوين من مقاهي الإنترنت كما تفعل قلة من المدونين. يجب ألا يغيب عنّا هنا أن مصر تحتل مركزا متدنياً جداً بين دول العالم سواء من حيث نسبة مستخدمي الإنترنت بوجه عام، أو نسبة المشتركين منهم في شبكات الاتصال السريع، إلى مجموع السكان. هذا فضلاً عن أن المدونين ومطالعي المدونات لا يشكلون في النهاية سوى نسبة ضئيلة من مستخدمي الإنترنت في مصر.

ولا شك أن هذا يُخرج المدونين من دائرة من يمكن تسميتهم بـ’المواطنين المصريين العاديين‘ (average Egyptians) ويجعل منهم نوعاً من ’النخبة‘. لا أقصد بذلك أنهم يشكلّون مجموعة تنفرد بقدرات ذهنية خاصة أو بنفوذ ثقافي أو سياسي يميزها عن سائر المصريين. ما أقصده بالنخبة هنا هو أنهم يشكلون، بالمقياس الإحصائي، مجموعة أقلية (minority group) تستخدم وسيلة خاصة في التعبير عن نفسها، وهذا هو القاسم الوحيد المشترك بين ما تضمه من أفراد ينتمي معظمهم بالضرورة، بمقاييس الدخول في مصر، إلى شرائح ميسورة نسبياً من الطبقة الوسطى المصرية.

من هنا، فإنني أضع ظاهرة التدوين في مصر في حدودها الحقيقية، فلا هي بـ’الصحافة البديلة‘ كما يحلو للبعض أن يسميها، ولا بالقوة المؤثرة على الرأي العام، ولاهي حتى بالوسيلة التي يمكن الركون إليها في التعرف بيقين على اتجاهات التفكير بين الشباب المصري في جملته. ربما تغير هذا الوضع في مستقبل بعيد، لكنه يظل الأمر الواقع، الآن وفي المستقبل المنظور وحتى إشعار آخر.

لسنا هنا بصدد حكم من أحكام القيمة، بل بصدد حكم من أحكام الواقع. فليس في الانتماء إلى أي طبقة أو شريحة اجتماعية، سواء كانت دنيا أو عليا أو بين بين، ما يعيب أي إنسان، أو ما يجعله بالضرورة أسيراً لرؤية معينة أو لقواعد حديدية للسلوك. والمدونون بالفعل كتلة غير متجانسة تضم أطيافا شتى وتعبر عن اتجاهات متباينة. لكننا نتجاوز الواقع كثيرا إذا توهمنا أننا نستطيع النفاذ إلى الصورة العامة لتفكير الشباب المصري من خلال المدونات. المدونات لا تعطينا سوى جانب ضئيل من الصورة، ولا تكشف في اعتقادي عن الاتجاهات السائدة في تفكير الشباب في جملته لأن أحدا لا يعرف– بأي قدر من اليقين– كيف يفكر السواد الأعظم من الشباب.

أضع هذه الضوابط نصب عيني حين أحاول أن استشرف من خلال المدونات اتجاه الريح في التفكير لدى هذه ’النخبة‘ بالمعنى الذي أوضحته. لا يقلقني كثيراً الصخب في بعض المناقشات ولا الزوابع التي تثور بين الحين والآخر. أعرف أن التدوين لا يعدو أن يكون ركناً صغيراً من مجتمع واسع ومعقد يضم ثمانين مليوناً من البشر، وأدرك أن أكثر الأصوات صخباً في عالم التدوين قد لا تعبر عن اتجاه له وزن في هذا المجتمع الواسع، وأن صداها سيظل محكوما بقوى وعوامل وتفاعلات تقع خارج عالم التدوين، وربما لا تخطر على بال أصحاب هذه الأصوات الصاخبة أنفسهم. أهم ما يشدني إلى المدونات هو الرغبة في التعرف على مبدعين جدد، في استطلاع استخدامهم للغة والتعرف على الاهتمامات التي تشغلهم، في الوقوف على التغير في موازين القيم الاجتماعية والإبداعية من خلال كتاباتهم واجتهاداتهم الإبداعية. أريد أن أتجدد معهم..!

(يتبع)

هناك ٤ تعليقات:

  1. غير معرف٢٥/١/٠٧ ١٤:٣٩

    حمد الله على السلامه
    الشارع منوّر
    وكلنا شوْق
    يا أستاذ عبد الحق
    أظنها مقالات ساخنة إن شاء الله !!!
    على بركة الله

    ردحذف
  2. غير معرف٢٦/١/٠٧ ١٥:٢٣

    ____________________________________
    أدرك بطبيعة الحال أن المدونين، في ظروفنا المصرية، لا يمكن اعتبارهم ’عينة ممثلة‘ للمجتمع المصري، أو حتى للشباب المصري، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح في علم الإحصاء أو في الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي. فالتدوين يحتاج إلى قدرٍ من اليُسر المالي والمعيشي، يُسر يوفر لصاحبه أولاً وقت الفراغ اللازم لممارسة التدوين وتعلم وتطوير المهارات المطلوبة، ويتيح له القدرة على شراء الأجهزة وسداد فواتير التليفون أو الاشتراك في شبكات الاتصال السريع بالإنترنت، أو حتى ممارسة التدوين من مقاهي الإنترنت كما تفعل قلة من المدونين. يجب ألا يغيب عنّا هنا أن مصر تحتل مركزا متدنياً جداً بين دول العالم سواء من حيث نسبة مستخدمي الإنترنت بوجه عام، أو نسبة المشتركين منهم في شبكات الاتصال السريع، إلى مجموع السكان. هذا فضلاً عن أن المدونين ومطالعي المدونات لا يشكلون في النهاية سوى نسبة ضئيلة من مستخدمي الإنترنت في مصر.
    _____________________________________

    عبد الحق
    منتظر تتمة تعليقك على التدوين
    مبدئيا بس أسأل هل لازم أكون منتمي للطبقة اللي عايز أعبر عنها ؟
    هل فعلا لو كانت عينة المدونين من الطبقة المتوسطة العليا مثلا مفيهاش من يمثلون الطبقة المتسوطة العادية _اللي هي القوام الأساسي للمجتمع المصري_ ؟؟

    أنتظرك
    و مسائك زي الورد

    ردحذف
  3. عزيزي أمين: شكرا جزيلا.أرجو أن أكون عند حسن الظن.

    عزبزي محمود عزت: أولا خطوة عزيزة. مدونتك هي إحدى المدونات التي كنت أعنيها حين قلت : "تصادفني في زياراتي للمدونات أصوات تمس أوتارا في نفسي. أتوقف عندها وأعود اليها كثيرا." هل تصدقني إذا قلت لك انني مشغول منذ فترة بما تكتبه انت وزميلك الشاعر عمر (صاحب مدونة تجربة) وأفكر في الكتابة عنكما. كتبت حتى الآن عن سبع من المدونين ستنشر مقالاتي عنهم في "الشارع" تباعا. وآمل أن تتسع هذه السلسلة لتشمل كل المبدعين من المدونين الشباب الذين أتوسم فيهم الموهبة الواعدة وأسعد بصحبتهم.
    نأتي إلى أسئلتك:

    السؤال الأول: هل لازم أكون منتمي للطبقة اللي عايز أعبر عنها؟

    إجابتي الصريحة والقاطعة هي لا. مش لازم أبدا يا محمود..
    قلت في مقالتى: "ليس في الانتماء إلي أي طبقة أو شريحة اجتماعية ما يعيب أي إنسان أو يجعله بالضرورة أسيرا لرؤية معينة أو لقواعد حديدية للسلوك". تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية حافل بالأمثلة. فضلا عن ذلك، هناك فترات تاريخية تتلاقى فيها مصالح طبقات وفئات اجتماعية عديدة و يمكن أن يعبــّر السياسي أو المفكر خلال تلك الفترات عن حركة اجتماعية صاعدة بكل ماتضمه من طبقات ومجموعات اجتماعية. مفكرو التنوير الأوربي والثورة الفرنسية كانوا فيما اعتقد من هذا النوع بوجه عام.

    حين نأتي إلى مجال الإبداع الأدبي والفني علينا أن نراعي خصوصيته. عملية الإبداع الفني عملية لا يسيطر الفنان، سيطرة شعورية واعية، على كل عناصرها(عرفت كثيرا من الأدباء الذين يقولون بعد الانتهاء من العمل: لا أعرف كيف خرج هذا الكلام مني! أو كأن أحدا آخر هو الذي كتبه!) أعتقد انك تفهمني.

    الفن في اعتقادي أقوى من أي إيديولوجية. عند الفنان المتواضع الموهبة قد نلمس التوتر بين الإ يديولوجية والطلاقة الإبداعية. لكننا لا نلمس هذا التوتر عند الفنان العظيم. لقد كان "الكونت" تولستوي المنتمي لطبقة النبلاء هو الذي عبر عن الفلاح الروسي الفقير (الموجيك). لم يعبر عنه أحد كما عبر عنه تولستوي! وكان الروائي الفرنسي بلزاك، وهو ملكي النزعة ومؤيد للنظام الملكي، هو أكثر من فضح هذا النظام. نجيب محفوظ في الثلاثية، مثلا، هل كان محكوما بإيديولوجية طبقية صارمة أم كان يعبر عن حركة مصر كلها وهي تسعى للتحرر من قيودها .. قيود الوطن وقيود الفكر وقيود المرأة. يتعاطف مع فهمي (شهيد ثورة 1919) كما يتعاطف مع أحمد (الشيوعي) وعبد المنعم (الإخواني) ربما ليس بنفس القدر ولكنه لا يتجاهل احد ويتفهم الجميع ويعلو الإبداع عنده على الإيديولوجية شأن كل مبدع كبير. سأضرب لك مثلا آخر بالروائي الجواتيمالى ميجل استورياس. هل تصدق أن هذا الروائي العظيم قد حصل على جائزة نوبل وجائزة لينين، ارفع جائزة أدبية في الاتحاد السوفيتي السابق! ألا ترى معى أن الفن العظيم أقوى من أي أيديولوجية؟ أخيرا هل أقول لك إننى أدمن قراءة شعر إليوت .. أحبه جدا رغم اننا على طرفي نقيض من حبث المعتقدات السياسية وكثير من الجوانب الفكرية الأخرى.

    ردحذف
  4. عزيزي محمود عزت : ردا على سؤالك الثاني: قلت في مقالي إن معظم ( أكرر معظم ، وليس كل) المدونين ينتمون الى الشرائح الميسورة نسبيا( أكرر نسبيا) من الطبقة المتوسطة المصرية . حرصت على عدم استخدام وصف "العليا" لسببين: الأول لكي لا يفهم أحد انني اصنف المدونين تصنيفا طبقيا صارما. استخدمت مصطلح "الطبقة المتوسطة" بالمعنى الواسع وقلت "الشرائح الميسورة" بالمعني الواسع أيضا وبمقياس وحيد هو مستوى الدخل أي القدرة على تحمل تكاليف التدوين. وهذا من واقع خبرتي الشخصية وما أعرفه عن مستوى الدخول في مصر، ومن متابعتي للمدونات وما تتضمنه من تفاصيل عن حياة المدونين .

    السبب الثاني هو انني اعتقد أن أبناء الطبقات "العليا" مشغولون عامة بأمور أخرى غير التدوين. وهذا أيضا من واقع خبرتي ومما أعرفه عن ظروف كثير من المدونين.

    ردا على سؤالك عن وجود اشخاص من المدونين ينتمون الى الطبقة المتوسطة العادية. أقول لك ممكن (إذا كنت تقصد بالعادية منخفضة الدخل) بس دول في اعتقادي أقلية داخل مجموعة الأقلية اللى هيا المدونين. ليس في هذا ما يتعارض مع ما قلته في المقال. عذرا للإطالة. شرفتنا ولك أخلص مودتي.

    ردحذف